قلب،
کما لا تثبت لذة الابصار عند الأعمی، و لذة الاستماع عند الأصم، و لذة
الوقاع عند العنین، و لذة الرئاسة عند الصبی و المعتوه، و لیت شعری من لا
یفهم إلا حب المحسوسات کیف یؤمر بلذة النظر إلی وجه اللّه- تعالی- و لیس له
شبه و شکل و صورة؟ فحقیقة الحال کما قیل: «من ذاق عرف»، فمن ذاق اللذتین
یترک لذة الرئاسة قطعا، و یستحقر أهلها لکونها مشوبة بالکدورات و مقطوعة
بالموت، و یختار لذة المعرفة باللّه، و مطالعة صفاته و افعاله، و نظام
مملکته من أعلی علیین إلی اسفل السافلین، فانها خالیة عن الانقطاع و
المکدرات، متسعة للمتواردین علیها، لا تضیق بکثرتهم دائما، و عرضها من حیث
التفهیم و التمثیل أعظم من السماوات و الأرض، و من حیث الواقع و نفس الامر
فلا نهایة لعرضها، فلا یزال العارف بمطالعتها و مشاهدتها فی جنة غیر
متناهیة الأطراف و الاقطار، یرتع فی ریاضها، و یکرع [1] فی حیاضها، و یقطع
من اثمارها، و هو آمن من انقطاعها، إذ ثمارها غیر مقطوعة و لا ممنوعة، بل
هی أبدیة سرمدیة لا یقطعها الموت، إذ الموت لا یهدم النفس الناطقة التی هی
محل المعرفة، و إنما یقطع شواغلها و عوائقها و یخلیها من جنسها، فاذن جمیع
أقطار ملکوت السماوات و الأرض، بل أقطار عالم الربوبیة التی هی غیر
متناهیة، میدان للعارفین، یتبوءون منها حیث یشاؤن، من غیر حاجة إلی حرکة
اجسامهم، و من غیر ان یضیق بعضهم علی بعض أصلا، إلا انهم یتفاوتون فی سعة
میادینهم بحسب تفاوتهم فی اتساع الأنظار و سعة المعارف: و لِکُّلٍ دَرَجاتٌ ممّا عَمِلوا [2].(1) کرع- من باب نفع-: هو الشرب بفیه من موضعه. (2) الانعام، الآیة: 132، الاحقاف، الآیة: 19.