و يزداد حسن هذه الاستعارة في مقابلة قولهم انما نحن مستهزءون. و اين
عنها قول عمر بن كلثوم في معلقته:
ألا لا يجهلن احد علينا
فنجهل
فوق جهل الجاهلينا
وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يملي لهم و يمهلهم في
تماديهم على طغيانهم مع حرمانهم التوفيق و هذا بمنزلة التفسير لما استعير له لفظ
الاستهزاءيَعْمَهُونَ العمه هو العمى في الرأي و البصيرة و التردد في الضلال
15أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى إذ كانوا ممن هيأ اللّه بألطافه لهم اسباب الاهتداء و جعل بلادهم محط
بركة الهجرة و مشرق أنوار الوحي و منار الدلائل و الحجج قد أحاطت الألطاف بهم و
توارد عليهم الإرشاد في مصبحهم و ممساهم و أجابوا دعوة الإسلام بلا إكراه حرب و لا
إرهاب سيف. و لكن هذا الهدى الذي سعدوا بالقرب من موارده العذبة و ثماره الجنية قد
اشتروا به الضلالة. و ان كل مشتر من العقلاء لا بد من ان يراعي منفعته بما اشتراه
و غبطته بتجارته و هذا أول ما يطلب من الربح فيها. و الربح نقيض الخسران و من لم
يربح في تجارته و لم يكن لما اشتراه منفعة فهو خاسر و يكفي هؤلاء من السفه إنهم اشتروا
و تاجروافَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ و لا نفع لهم فيما اشتروه
فضلا عن و باله في الدنيا و الآخرةوَ ما كانُوا
مُهْتَدِينَ
من أول الأمر لأنهم لم يظهروا الإسلام عن بصيرة و إيمان و إنما
أظهروه لأغراض أخرى. و قيل و ما كانوا مهتدين في تجارتهم و الأول أظهر و أوفق
بمقتضى الحال 17مَثَلُهُمْ في حالهمكَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً و طلب وقودها لحاجته إلى
الضياءفَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ من النواحي و حان انتفاعه
بنورها فيما يعنيه من أموره ذهب ذلك النور و عاد هذا المستوقد في ظلام دامس لا
يبصر فيه شيئا و خبط عشواء لا يهتدي فيه سبيلا. و هؤلاء المنافقون المذكورون كانوا
يتشرفون بحضرة الرسول (ص) و يستمعون إلى كلامه و حججه في بيانه و دلائله في إرشاده
و تلاوته لكتاب اللّه فهم بذلك كمن استوقد نارا لهدى فلما أضاءت لهم بلطف اللّه
مناهج الرشد و مغاني الحق تمرّدوا على اللّه بنفاقهم فخرجوا عن كونهم أهلا