الدنيوية و الوجهة الدينية اظهر من أن تخفى او تجحد. فإنه في ارض ليس
فيها مادة ثروة و لا تجارة و لا زراعة و لا صناعة و ترى مجاوريه فيها يبلغون عشرات
الألوف و هم منذ القرون المتطاولة في الجاهلية و الإسلام في سعة من العيش و تمتع
في النعم و العز و الأمن فيما بين العرب الوحشيين الأشداء العتاة و يفد إليها
الألوف العديدة من الحجيج فلا يضيق عليهم العيش. و يذبح في الموسم من كل سنة من
أغنام ضواحيها ما يزيد على مائة الف فلا يظهر فيها النقص. و اما من الوجهة الدينية
فإنه المباركوَ هُدىً لِلْعالَمِينَ هدى حال بمعنى هاد و لمزيد
هداه قيل هدى كما يقال زيد عدل. و من بركة هداه ان العرب التفت بإسماعيل و تلقت
منه دين ابراهيم و شريعة الختان و عبادة اللّه بالحج و الطواف و ان مازج ذلك فيما
بعد شيء من ضلال الوثنية بل بقي في حرمه شيء من الحقوق الاجتماعية و المدنية مدة
الجاهلية على رغم ما في محيطه من وحشية الاعراب و ضلالهم. و كفى ببركة هداه ان
صارت مكة مولدا و مظهرا لخاتم الأنبياء و صفوة الرسل و مهبطا للوحي و مبدءا للدعوة
الصالحة الى دين الحق دين الفطرة و الشريعة المقدسة و نظام الاجتماع و الصلاح و
مشرقا لأنوار القرآن الكريم
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ بدلالتها الجلية على
منزلته السامية في الشرف و كرامته عند اللّهمَقامُ
إِبْراهِيمَ
و هو و ما يذكر بعده بدل تفصيلي من الآيات المذكورة. فإن مقام
ابراهيم من آيات البيت الباهرة الخالدة و هو الصخرة التي قام عليها ابراهيم الخليل
فأثرت فيها قدماه الشريفتان تأثيرا بينا كما تؤثر في الطين الرطب و هذه الصخرة و
ذلك الأثر محفوظان الى الآن على رغم القرون المتطاولة و تتابع الحوادث و تقلب
الأحوال و في ذلك ايضا آية كبيرة. و قد تقدم شيء من الكلام على المقام في الآية
التاسعة عشر بعد المائة من سورة البقرة [1]وَ
مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أي من دخل بلده
[1] هذا و لصاحب المنار في الجزء الرابع
من تفسيره صفحة 13 كلام لم يسمح فيه بأن يكون الأثر في الصخرة أثر لقدمي ابراهيم
في الصخر على خلاف العادة بل نسب ذلك الى اعتقاد العرب و شعر أبي طالب في لاميته
المعروفة
و موطأ ابراهيم في الصخر وطئة
على
قدميه حافيا غير ناعل
و المعروف سماعا و وجادة هو «وطئة» بالواو كما في
النسخ المعتمدة و منها المكتوبة على نسخة كتبها عفيف بن أسعد في المحرم سنة ثمانين
و ثلاثمائة من نسخة كتبها الشيخ ابو الفتح عثمان بن جني-