اسم الکتاب : الإمام الحسين في حلّة البرفير المؤلف : سليمان كتّاني الجزء : 1 صفحة : 37
ـ ٢ ـ
لقد كان الحسين باكر التمييز والنُّضج ،
لا نردُّ ذلك إلى بُنية مُنسَّقة الاسنجام ، هي مِن نعمة باريها هِبة كريمة
يتمتَّع بها وجود الإنسان ، أكثر مِمَّا نُعزِّزها ـ وهي البُنية الأصيلة ـ بتنشئة
واضحة القصد ، والتوجيه ، والإحاطة ، فإذا هي طاقة مُستعجلة إلى تلبية الغاية
وبلوغ المرام.
لقد كان الحسين تلك البُنية السليمة بما
شعَّ عليها مِن دلائل نُبْل الفِكر والروح ، وهي كلُّها التي لمحتها عين النبيِّ
الكريم مُتحدِّرة مِن صُلب عليٍّ ، فإذا هي ـ في عين الطفل وفي محياه ـ استجابة
للأصل والجوهر ، وتحقيق لأشواق الحُلم الذي جاشت به تلك الليالي الصامتة : فكان
الانبعاث ، وكانت الرسالة ، وكانت القضيَّة ، وكانت الوصيَّة الهاجعة في عين
الحُلم.
مِن هنا كان وضوح القصد ، ومِن هنا كانت
التنشئة مُعيَّنة التوجيه ، وكانت الإحاطة موحَّدة العناصر ، وحاضرة الإعداد ، وكانت
البيئة ـ بحدِّ ذاتها ـ بيئة غنيَّة بمواردها الفكريَّة ـ الروحيّة ـ الأصيلة في
بُعدها وجوهرها ، وتحقيقاتها الرائعة المِثال.
لقد كان كلُّ ذلك في الجوِّ الذي راح
الحسين يتنفَّس فيه ، ويدرج مِن حِضن إلى حِضن ، فكيف له ـ وهو الآن في ثمانية مِن
العُمر ـ أنْ لا يكون باكر النضج والتمييز؟! وكيف له أنْ لا يُدرك ـ وهو تحت عين
أبيه علي وبين يديه وفي احتكاك لا يهدأ بروحه وقلبه ولسانه ـ أنَّ جدَّه الذي رجع
مريضاً مِن حَجَّة الوداع ، وهو الذي أضناه التعب في الساحات الكبيرة ، التي
امتصَّت فِكره وقلبه وأوصاله؟! وها هو يتركها وقد خلَّف فيها الثقلين : عترته ، ورسالة
ملفوفة بكتاب ، وحُلماً أصيلاً بأنَّ الجُهد الكبير في الحياة ، هو مِن الحياة ، وأنَّ
الحقَّ لا يموت ، وأنَّ الاستمرار هو الوصلة الجُلَّى ، يتنقَّل الجُهد بها وعليها
إلى بقاء القيمة الخالدة في مُجتمع الإنسان.
لقد أدرك الحسين ـ وهو في بكرة طريَّة
مِن العُمر ـ أنَّ جَدَّه وأباه ، هما مُحيطان في الإصابة ، وأدرك أنَّ عليه ـ
مُنذ الآن ـ أنْ ينمو ويترعرع في حِضن جَدَّه الذي
اسم الکتاب : الإمام الحسين في حلّة البرفير المؤلف : سليمان كتّاني الجزء : 1 صفحة : 37