الأبيات؛
فإن لها شأنا! فلم يردّ عليّ شيئا. فرجعت إلى رحلي فركبت و سرت و أنا ذاهبة العقل؛
و في كل ذلك لا يخبرني صواحباتي أنهنّ سمعن شيئا. فلما كانت الليلة القابلة نزلنا
و أخذ الحيّ مضاجعهم و نامت كلّ عين، فإذا الهاتف يهتف بي و يقول: يا بثينة، أقبلي
إليّ أنبئك عمّا تريدين. فأقبلت نحو الصوت، فإذا شيخ كأنه من رجال الحيّ، فسألته
عن اسمه و بيته. فقال: دعي هذا و خذي فيما هو أهمّ عليك [1]. فقلت له: و إن هذا
لممّا يهمّني.
قال: اقنعي بما
قلت لك. قلت له: أنت المنشد الأبيات؟ قال نعم. قلت: فما خبر جميل؟ قال: نعم فارقته
و قد قضى نحبه و صار إلى حفرته رحمة اللّه عليه. فصرخت صرخة آذنت [2] منها الحيّ،
و سقطت لوجهي فأغمي عليّ، فكأنّ صوتي لم يسمعه أحد، و بقيت سائر ليلتي، ثم أفقت
عند طلوع الفجر و أهلي يطلبونني فلا يقفون على موضعي، و رفعت صوتي بالعويل و
البكاء و رجعت إلى مكاني. فقال لي أهلي: ما خبرك و ما شأنك؟ فقصصت عليهم القصّة.
فقالوا: يرحم اللّه جميلا. و اجتمع نساء الحيّ و أنشدتهنّ الأبيات فأسعدنني
بالبكاء، فأقمن [3] كذلك لا يفارقنني ثلاثا، و تحزّن الرجال أيضا و بكوا و رثوه و
قالوا كلّهم: يرحمه اللّه، فإنه كان عفيفا صدوقا! فلم أكتحل بعده بإثمد و لا فرقت
رأسي بمخيط [4] و لا مشط و لا دهنته إلا من صداع خفت على/ بصري منه و لا لبست
خمارا مصبوغا و لا إزارا و لا أزال أبكيه إلى الممات. قالت جميلة: فأنشدتني الشعر
كلّه و هذا الغناء بعضه، و هو:
ألا من لقلب لا يملّ فيذهل
أفق فالتعزّي عن بثينة أجمل
مدحها ابن
سريج فردت عليه مدحه ثم غنت و غنى هو و معبد و مالك بشعر حاتم الطائي
: قال ابن
سلّام حدّثني جرير قال:
زار ابن سريج
جميلة ليسمع منها و يأخذ عنها. فلما قدم عليها أنزلته و أكرمته و سألته عن أخبار
مكة فأخبرها.
و بلغ معبدا
الخبر [5]. [و كانت تطارحه و تسأله عن أخبار مكة فيخبرها]. و كانت عندها جارية
محسنة لبقة ظريفة، فابتدأت تطارحها. فقال ابن سريج: سبحان اللّه! نحن كنّا أحقّ
بالابتداء. قالت جميلة: كلّ إنسان في بيته أمير و ليس للداخل أن يتأمّر عليه. فقال
ابن سريج: صدقت جعلت فداءك! و ما أدري أيّهما أحسن أدبك أم غناؤك!.
فقالت له: كفّ
يا عبيد، فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «احثوا في وجوه المدّاحين
التراب» [6]. فسكت ابن سريج. و طارحت الجارية بشعر حاتم الطائي:
[5] هذه
الجملة المحصورة بين قوسين وردت في ب، س، ح. و في سائر الأصول: «و بلغ معبدا الخبر
فوجد عندها جارية إلخ».
[6] المراد
بالمداحين هنا الذين عادتهم مدح الناس لغرض من الأغراض كتحصيل المال أو الجاه، و
أما المدح على الفعل الحسن للتحريض على عمل الخير فليس منه. و حثو التراب في
وجوههم، يراد به تجنبهم و ترك التحفي بهم.
[7] رواية
هذا الشطر في «ديوانه»: أ تعرف أطلالا و نؤيا مهدّما.