فأقبلت على عقيد فقلت له حين استوفاه: في أيّ طريقة هذا الصوت الذي
غنّيته؟ قال: في الرّمل؛ فقلت للضارب:
في أي طريقة
ضربت أنت؟ قال: في الهزج الثقيل؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عسيت أن أقول في صوت
يغنّي مغنّيه رملا و يضرب ضاربه هزجا، و ليس هو صحيحا في إيقاعه الذي ضرب عليه!.
قال: و تفهّمه إبراهيم بن المهديّ بعدي، فقال: صدق يا أمير المؤمنين، الأمر فيه
الآن بيّن؛ فغاظني، فقلت له: بأيّ شيء بان الآن ما لم يكن بيّنا قبل؟ أتوهم أنك
استنبطت معرفة هذا! و إنما قلته لمّا علمته من جهتي كما يقوله الغلمان العجم و
سائر من حضر اتّباعا لي و اقتداء بقولي. فقال له المأمون: صدق، فأمسك؛ و جعل
يتعجّب من ذهاب ذلك على كل من حضر، و كنّاني في ذلك اليوم مرّتين.
إعجاب
الأصمعي ببيتين له في الفخر:
أخبرني أحمد بن
جعفر جحظة قال حدّثني أبو عبد اللّه أحمد بن حمدون قال حدّثني أبي:
/ أنّ الأصمعيّ
أنشد قول إسحاق يذكر ولاءه لخزيمة [1] بن خازم:
إذا كانت الأحرار أصلي و منصبي
و دافع ضيمي خازم و ابن خازم
عطست بأنف شامخ و تناولت
يداي الثريّا قاعدا غير قائم
قال: فجعل
الأصمعيّ يعجب منهما و يستحسنهما، و كان بعد ذلك يذكرهما و يفضّلهما.
سبب ولائه
لخازم بن خزيمة:
قال ابن حمدون:
و كان السبب في تولّي إسحاق خازم بن خزيمة بن خازم، أنّ مناظرة جرت بينه و بين ابن
جامع بحضرة الرشيد فتغالظا [2]، فقال له ابن جامع: يا من إذا قلت له يا ابن زانية
لم أخف أن يكذّبني أحد؛ فمضى إلى خازم بن خزيمة، فتولّاه و انتمى إليه، فقبل ذلك
منه، و قال هذين البيتين.
امتحنه
المعتصم في صوت فأجاب بأنه محدث لامرأة و كان لعريب:
أخبرني يحيى بن
عليّ قال حدّثني أبي قال: قال إسحاق: كانت عندي [3]/ صنّاجة كنت بها معجبا؛ و
اشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون؛ فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا
ببابي يدقّ دقّا شديدا، فقلت:
انظروا من هذا؛
قالوا: رسول أمير المؤمنين؛ فقلت: ذهبت صنّاجتي، تجده ذكرها له ذاكر فبعث إليّ
فيها؛ فلمّا مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب و أنا مثخن [4]، فدخلت فسلّمت، فردّ
السلام، و نظر إلى تغيّر وجهي فقال:
اسكن فسكنت؛ و
سألني عن صوت و قال: أ تدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء
اللّه بذلك؛ فأمر/ جارية من وراء الستارة فغنته و ضربت، فإذا هي قد شبّهته
بالقديم؛ فقلت: زدني معها عودا آخر فإنه أثبت
[1]
هو خزيمة بن خازم بن خزيمة، كان هو و أبوه من أشراف الدولة العباسية، و قد ولى
أبوه خراسان و عمان لأبي جعفر المنصور، و كان هو من قوّاد الرشيد المبرزين الذين قاموا
له بجلائل الأعمال (انظر كتاب «المعارف» لابن قتيبة ص 213 و «تاريخ الطبري» قسم 3
ص 602 و 648 و 683 إلخ).
[2] كذا في
ب. و تغالظا: تعاديا و تشاتما، و المغالظة: شبه المعارضة، يقال: مالك تغالطني و
تغالظني، و تعارضني و تغايظني. و في سائر الأصول: «تغالطا» بالطاء المهملة، و
المغالطة: الإيقاع في الغلط.
[3] الصناجة:
الضاربة بالصنج. و الصنج (لفظ دخيل): صفيحة مدورة تتخذ من صفر يضرب بها على أخرى
مثلها للطرب.