قال لي هذا القول أضحكني حتّى أذهلني عن جوابه و معاتبته، فأمسكت عنه
و علمت أنه ليس ممن شرح اللّه صدره للإسلام.
بخله، و
نوادر مختلفة في ذلك:
أخبرني يحيى بن
عليّ إجازة قال حدّثني عليّ بن المهديّ قال قال الجاحظ: حدّثني ثمامة قال:
دخلت يوما إلى
أبي العتاهية فإذا هو يأكل خبزا بلا شيء. فقلت: كأنك رأيته يأكل خبزا وحده؛ قال:
لا! و لكنّي رأيته يتأدّم بلا شيء. فقلت: و كيف ذلك؟ فقال: رأيت قدّامه خبزا
يابسا من رقاق فطير و قدحا فيه لبن حليب، فكان يأخذ/ القطعة من الخبز فيغمسها من
اللبن و يخرجها و لم تتعلّق منه بقليل و لا كثير؛ فقلت له: كأنك اشتهيت أن تتأدّم
بلا شيء، و ما رأيت أحدا قبلك تأدّم بلا شيء.
قال الجاحظ: و
زعم لي بعض أصحابنا قال: دخلت على أبي العتاهية في بعض المتنزّهات، و قد دعا
عيّاشا صاحب الجسر و تهيّأ له بطعام، و قال لغلامه: إذا وضعت قدّامهم الغداء فقدّم
إليّ ثريدة [1] بخلّ و زيت. فدخلت عليه، و إذا هو يأكل منها أكل متكمّش [2] غير
منكر لشيء. فدعاني فمددت يدي معه، فإذا بثريدة بخلّ و بزر بدلا من الزّيت. فقلت
له: أ تدري ما تأكل؟ قال: نعم ثريدة بخلّ و بزر. فقلت: و ما دعاك إلى هذا؟ قال:
غلط الغلام بين دبّة [3] الزيت و دبّة البزر؛ فلمّا جاءني كرهت التجبّر و قلت: دهن
كدهن، فأكلت و ما أنكرت شيئا.
أخبرني يحيى بن
عليّ قال حدّثني عليّ بن مهديّ قال حدّثنا عبد اللّه بن عطيّة الكوفيّ قال حدّثنا
محمد بن عيسى الخزيميّ، و كان جار أبي العتاهية، قال:
كان لأبي
العتاهية جار يلتقط النّوى ضعيف سيّئ الحال متجمّل [4] عليه ثياب فكان يمرّ بأبي
العتاهية طرفي النهار؛ فيقول أبو العتاهية: اللهم أغنه عمّا هو بسبيله، شيخ ضعيف
سيّئ الحال عليه ثياب متجمّل، اللهم أعنه، اصنع له، بارك فيه. فبقي على هذا إلى أن
مات الشيخ نحوا من عشرين سنة. و و اللّه [5] إن تصدّق عليه بدرهم و لا دانق قطّ، و
ما زاد على الدعاء شيئا. فقلت له يوما: يا أبا إسحاق إني أراك تكثر الدعاء لهذا
الشيخ و تزعم أنه فقير مقلّ، فلم لا تتصدّق عليه بشيء؟ فقال: أخشى أن يعتاد
الصّدقة، و الصدقة أخر [6] كسب العبد، و إنّ في الدعاء لخيرا كثيرا.
/ قال محمد بن
عيسى الخزيميّ هذا: و كان لأبي العتاهية خادم أسود طويل كأنه محراك أتّون، و كان
يجري عليه في كل يوم رغيفين. فجاءني الخادم يوما فقال لي: و اللّه ما أشبع. فقلت:
و كيف ذاك؟ قال: لأنّي ما أفتر من الكدّ و هو يجري عليّ رغيفين بغير إدام. فإن
رأيت أن تكلّمه حتى يزيدني رغيفا فتؤجر! فوعدته بذلك. فلمّا جلست معه مرّ بنا
الخادم فكرهت إعلامه أنّه شكا إليّ ذلك، فقلت له: يا أبا إسحاق، كم تجري على هذا
الخادم في كلّ
[1]
في ب، س: «ثردة» و الثردة (بالضم): الاسم من ثرد الخبز أي فته ثم بلّه بمرق.