اسم الکتاب : الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أول الاعتقاد المؤلف : الجویني، عبد الملك الجزء : 1 صفحة : 140
فإن قال قائل: ما دليلكم
على أن نبيكم أظهر القرآن؟ و ما يؤمنكم أن يكون ذلك مختلقا بعده؟
قلنا: لا حجاج في درء
الضرورات و نحن باضطرار نعلم أن نبينا عليه السلام كان يدرس القرآن و يتلوه، و
يعلمه صحبه و أتباعه، و ما ثبت توترا معلوم على الضرورة. و جحد ذلك بمثابة جحد كون
محمد صلى اللّه عليه و سلّم في الدنيا، و هذا كجحد الدول و الوقائع و أيام الماضين.
و لا معنى للإطناب في ذلك.
فإن قيل: فإن سلم لكم ظهور
ذلك منه في زمانه، فما دليلكم على تحديه به و تعجيزه الأمم بالدعاء إلى معارضته؟
قلنا: هذا أيضا معلوم على الضرورة. فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم لم يزل
مدليا بالقرآن، مدلّا به، مدعيا اختصاصه بكتاب اللّه تعالى المنزل عليه. و من أنكر
ادعاء استيثاره به، و تعلقه بتخصيص الرب تعالى إياه بكتابه، فقد جحد ما تواترت
الأخبار عنه.
و الذي يحقق ما قلناه، أنا
على البديهة نعلم أن واحدا من العرب لو أتى- تقديرا- بمثل القرآن، لكان ذلك قادحا
فيما يعهد من دعوى النبوءة مزريا به حاطا من رتبته، و هذا ما لا سبيل إلى إنكاره،
و لو لا تحديه به لما كان الأمر كذلك. و لا خفاء بما قلناه و قد نصت آي من القرآن
على التحدي و تعجيز العرب و منها قوله تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء: 88]، إلى غيرها من الآي في معناها.
فإن قيل: لا يبعد تقدير
الاختلاف في هذه الآي بأعيانها، فإنها لا تبلغ مبلغ الإعجاز فيمتنع تقدير
اختراعها. قلنا: ما من آية هي من القرآن إلا و نقلها ثابت على التواتر، إذ تلقاها
قراء الخلف عن قراء السلف. و لم يزل الأمر كذلك، ينقله أصاغر عن أكابر، حتى استند
النقل إلى قراء الصحابة رضي اللّه عنهم، و ما نقص عدد القراء في كل دهر عن عدد
التواتر. و الذي يوضح ما قلناه، أنا لو تشككنا في آية بعينها لاتجه ذلك في كل آية،
و ذلك يسقط الثقة بنقل جملة القرآن.
فإن قيل: ما الذي يؤمنكم
أن القرآن عورض، ثم كتم ما عورض به؟ قلنا: هذا محال، إذ لو كان ذلك كذلك لظهر
الأمر و اشتهر، و الخطب العظيم لا يخفي في مستقر العادة، و ادعاء ما ذكره السائل
بمثابة ادعاء خليفة قائم يأمر المسلمين قبل أبي بكر رضي اللّه عنه، و ذلك يعلم
بطلانه على الضرورة.
و الذي يعضد ما قلناه، أن
الكفرة من لدن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم إلى وقتنا، باذلون كنه مجهودهم في
أن ينكئوا في الدين بأقصى الإمكان. فلو كانت المعارضة ممكنة غير متعذرة، لاحتالوا
فيها على كرور الدهور و طول العصور، و لو خفيت معارضته لاستجد مثلها.
ثم إن كان هذا السؤال و
ضربه من القائلين بالنبوءات، انعكس عليهم جميع ما أوردوه في معجزات نبيهم. فيقال
لليهود: ما يؤمنكم أن موسى عليه السلام عورضت آياته، ثم تواضع بنو إسرائيل على طمس
الخبر عما جرى من معارضته؟.
فإن قيل: بم تنكرون على من
يزعم أن العرب ما انكفت عن معارضة القرآن عن عجز، إنما
اسم الکتاب : الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أول الاعتقاد المؤلف : الجویني، عبد الملك الجزء : 1 صفحة : 140