اسم الکتاب : الأربعين في اصول الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 46
حسن الصحبة في منازل السفر
مع المسافرين. و الخلق كلهم سفر، يسير بهم العمر سير السفينة بركّابها. و اعلم أن
الانسان في الدنيا إما أن يكون وحده، أو يكون مع خواصه من أهل و ولد و قريب و جار،
أو يكون مع عموم الخلق؛ فهذه ثلاثة أحوال. و عليه حسن الصحبة، و أداء الحقوق في
جميع هذه الأحوال:
الحالة الأولى: أن يكون
وحده. و ليعلم أنه بنفسه عالم و أن باطنه يشتمل على أصناف من الخلق مختلفي الطباع
و الأخلاق، فإن لم يحسن صحبتهم و لم يقم بحقوقهم هلك. و أصناف جنود الباطن كثيرة، وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31].
و قد استقصينا بعض ذلك في
كتاب عجائب القلب.
و نذكر الآن أمراء الجنود
و رءوسها، فنقول: فيك شهوة تجذب بها إلى نفسك النافع، و غضب تدفع به عن نفسك
الضار، و عقل تدبر به الأمور و ترعى به الرعية.
فأنت، باعتبار غضبك كلب، و
باعتبار شهوتك بهيمة، كالفرس مثلا، و باعتبار عقلك ملك. و أنت مأمور بالعدل بينهم،
و القيام بحقوقهم، و الاستعانة بهم، لتقتنص بمعونتهم سعادة الأبد، فإن رضت[1] الفرس و أدبت الكلب و سخرتهما للملك
تيسر لك الظفر بما طلبت، و إن سخرت العقل في استنباط الحيل لتحصيل ما يتقاضاه
الكلب بغضبه و لجاجه[2]،
و الفرس بحرصه و جشعه أوفيت على العطب، فضلا عن إدراك مقصود الطلب، فصرت منكوسا
فاجرا ظالما؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. و لو رأيت شخصا جعل في طاعته ملك
و كلب و خنزير، فلم يزل يضطر الملك إلى أن يسجد للخنزير و الكلب، فهل تراه ظالما
مستوجبا اللعنة؟ و لو كوشفت بحالك عند منامك أو عند فنائك عن نفسك- كما وصفناه في
الاستغراق باللّه- لرأيت كل من أطاع شهوته و غضبه، ساجدا لكلب و خنزير، إذ لم يكن
الكلب كلبا لصورته بل لمعناه. و كذلك ترى نفسك بعد الموت؛ لأن المعاني في عالم
الآخرة تستتبع الصور و لا تتبعها، فيتمثل كل شيء بصورة توازي معناه، فيحشر
المتكبرون في صغر الذر[3]،
يطؤهم من أقبل و أدبر.