تلك هي غزوة فتح مكة، و هي المعركة الفاصلة و الفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتا، لم يترك لبقائها مجالا و لا مبررا في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ما ذا يتمخض عنه العراك و الاصطدام الذي كان دائرا بين المسلمين و الوثنيين، و كانت تلك القبائل تعرف جيدا أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق، و كان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت، فأهلكوا و جعلوا كعصف مأكول.
و كان صلح الحديبية مقدمة و توطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به و كلم بعضهم بعضا، و ناظره في الإسلام، و تمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه و الدعوة إليه و المناظرة عليه، و دخل بسببه بشر كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاثة آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشر آلاف.
و هذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس، و أزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها و بين الإسلام. و بهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي و الديني كليهما معا في طول جزيرة العرب و عرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية و الزعامة الدنيوية.
فالطور الذي كان قد بدأ بعد هدنة الحديبية لصالح المسلمين قد تم، و كمل بهذا الفتح المبين، و بدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماما، و كان لهم فيه السيطرة على الموقف تماما. و لم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و سلم) فيعتنقوا الإسلام، و يحملوا دعوته إلى العالم، و قد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين.