responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 350
هَذَا بَيَانٌ لِحَالَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ، مَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَاتِ يَعْرِفُونَهَا:
أَمَّا الْأُولَى فَمَا بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) أَيْ قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وَقَالَتِ النَّصَارَى كَذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اخْتِصَارٌ بَدِيعٌ غَيْرُ مُخِلٍّ. وَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَا يُنَافِي انْسِحَابَ حُكْمِهَا عَلَى الْآخِرِينَ، أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُرْوَى، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا - تَعَالَى - أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا حُجَّةَ لَهُ فِي كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ فَقَالَ: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، وَالْأَمَانِيُّ: جَمْعُ أُمْنِيَّةٍ، وَهِيَ مَا يَتَمَنَّاهُ الْمَرْءُ وَلَا يُدْرِكُهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ نَاطِقٌ بِأُمْنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ أَمَانِيَّ مُتَعَدِّدَةً هِيَ لَوَازِمٌ لَهَا، كَنَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَكَوُقُوعِ أَعْدَائِهِمْ فِيهِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْأَمَانِيَّ بِالْجَمْعِ وَلَمْ يَقُلْ: تِلْكَ أُمْنِيَّتُهُمْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذَا الْوَجْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُنَاكَ وُجُوهٌ أُخْرَى وَهِيَ: أَنَّ الْإِشَارَةَ بِتِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ لِقَوْلِهِ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (وَدَّ كَثِيرٌ) وَقَوْلِهِ (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا أَيْ أَمْثَالُ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ - تَعَالَى - بِالْبُرْهَانِ عَلَى دَعْوَاهُمْ، فَقَرَّرَ لَنَا قَاعِدَةً لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ قَوْلًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا
يَحْكُمُ لِأَحَدٍ بِدَعْوَى يَنْتَحِلُهَا بِغَيْرِ بُرْهَانٍ يُؤَيِّدُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي خُوطِبَتْ بِالْكُتُبِ السَّالِفَةِ لَمْ تَكُنْ مُسْتَعِدَّةً لِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَمَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِأَدِلَّتِهَا وَبَرَاهِينِهَا؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى مِنْهُمْ بِتَقْلِيدِ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا بُرْهَانَهُ، فَهُمْ مُكَلَّفُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُؤْمَرُونَ، سَوَاءً عَرَفُوا لِمَاذَا أُمِرُوا أَوْ لَمْ يَعْرِفُوا، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (12: 108) وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ، وَبِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ كَقَوْلِهِ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (21: 22) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَحْكَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ نَفْيِ الْمَضَرَّاتِ وَالْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَنَافِعِ.
عَلَّمَ الْقُرْآنُ أَهْلَهُ أَنْ يُطَالِبُوا النَّاسَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمْ عَلَى سَوَاءِ الْمَحَجَّةِ. وَجَدِيرٌ بِصَاحِبِ الْيَقِينِ أَنْ يُطَالِبَ خَصْمَهُ بِهِ وَيَدْعُوَهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ، قَالُوا بِالدَّلِيلِ وَطَالَبُوا بِالدَّلِيلِ وَنَهَوْا عَنِ الْأَخْذِ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، ثُمَّ جَاءَ الْخَلَفُ الطَّالِحُ فَحَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْلِيدِ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى غَيْرِ صِحَّةِ التَّقْلِيدِ، حَتَّى كَأَنَّ الْإِسْلَامَ خَرَجَ عَنْ حَدِّهِ، أَوِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، وَصَارَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ بِإِبْطَالِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 350
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست