اسم الکتاب : المحاسن و الأضداد المؤلف : الجاحظ الجزء : 1 صفحة : 20
سلطان النسيان سلطان الذكر، و لما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، و لو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، و لو لا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها، و خلدت من عجيب حكمتها، و دونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، فتحنا بها كل مستغلق، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، و أدركنا ما لم نكن ندركه إلاّ بهم، لقد بخس حظنا منه، و أهل العلم و النظر و اصحاب الفكر و العبر، و العلماء بمخارج الملل و أرباب النحل، و ورثة الأنبياء و أعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء و الصلحاء، و كتب الملاهي، و كتب أعوان الصلحاء و كتب أصحاب المراء و الخصومات، و كتب السخفاء و حمية الجاهلية، و منهم من يفرط في العلم أيام خموله و ترك ذكره و حداثة سنه، و لو لا جياد الكتب و حسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم، و نازعت إلى حب الكتب، و ألفت من حال الجهل و أن يكونوا في غمار الوحش، و لدخل عليهم من الضرر و المشقة و سوء الحال ما عسى أن يكون لا يمكن الأخبار عن مقداره إلاّ بالكلام الكثير [1] .
و سمعت محمد بن الجهم يقول: «إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتابا فأجد اهتزازي للفوائد الأريحية التي تعتريني من سرور الاستنباه و عز التبيّن، اشد ايقاظا من نهيق الحمار، و هدة الهدم، فإني إذا استحسنت كتابا و استجدته و رجوت فائدته، لم أوثر عليه عوضا، و لم ابغ به بدلا، فلا أزال انظر فيه ساعة بعد ساعة، كم بقي من ورقة مخافة استنفاده، و انقطاع المادة من قبله» [2] .
و قال ابن داحة: «كان عبد اللّه بن عبد العزيز بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر و كان لا يزال في يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقال: «لم أر أوعظ من قبر و لا آنس من كتاب، و لا اسلم من الوحدة» [3] .
[1] قارن بما ورد في كتاب الحيوان، الجزء الأول ص 25.