اسم الکتاب : البيان و التبيين المؤلف : الجاحظ الجزء : 2 صفحة : 13
أ لا ترى أن الحارث بن حدّان، حين أمر بالكلام عند مقتل يزيد بن المهلب، قال: «أيها الناس، اتقوا الفتنة، فإنها تقبل بشبهة، و تدبر ببيان، و إن المؤمن لا يلسع من جحر تين» ، فضرب بكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المثل، ثم قال: «اتقوا عصبا تأتيكم من الشام، كأنها دلاء قد انقطع و ذمها» .
و قال ابن الأشعث لأصحابه، و هو على المنبر: «قد علمنا إن كنا نعلم، و فهمنا إن كنا نفهم، أن المؤمن لا يلسع من جحر مرتين، و قد و اللّه لسعت بكم من جحر ثلاث مرات، و أنا أستغفر اللّه من كل ما خالف الإيمان، و اعتصم به من كل ما قارب الكفر» .
و أنا ذاكر بعد هذا فنا آخر من كلامه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو الكلام الذي قلّ عدد حروفه و كثر عدد معانيه، و جلّ عن الصنعة، و نزّه عن التكلف، و كان كما قال اللّه تبارك و تعالى: قل يا محمد: وَ مََا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ . فكيف و قد عاب التشديق، و جانب أصحاب التقعيب، و استعمل المبسوط في موضع البسط، و المقصور في موضع القصر، و هجر الغريب الوحشي، و رغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، و لم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، و شيد بالتأييد، و يسر بالتوفيق. و هو الكلام الذي ألقى اللّه عليه المحبة، و غشاه بالقبول و جمع له بين المهابة و الحلاوة، و بين حسن الأفهام، و قلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، و قلة حاجة السامع إلى معاودته.
لم تسقط له كلمة، و لا زلت به قدم، و لا بارت له حجة، و لم يقم له خصم، و لا أفحمه خطيب، بل يبذّ الخطب الطوال بالكلام القصار، و لا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، و لا يحتج إلا بالصدق، و لا يطلب الفلج [1] إلا بالحق، و لا يستعين بالخلابة، و لا يستعمل المواربة، و لا يهمز و لا يلمز [2] ، و لا يبطئ و لا يعجل، و لا يسهب و لا يحصر. ثم لم يسمع الناس