والجهة الأخرى إجازة
النحويين أن يقولوا في قولهم : حبذا زيد ، أنّ حبذا في موضع مرفوع بالابتداء ،
وزيد في موضع خبر حبذا ، فلو لا أنه قد تنزّل عندهم أن حبّ وذا جميعا قد جريا مجرى
زيد وحده ، لما وسموه بأنه في موضع رفع بالابتداء ، وأن ما بعده خبر عنه.
والجهة الثالثة
أن حبذا قد أجري على الواحد والاثنين والثلاثة ، والمذكر والمؤنث مجرى واحدا ، في
قولك : حبذا زيد ، وحبذا هند ، وحبذا الزيدان ، وحبذا الهندان ، وحبذا الزيدون ،
وحبذا الهندات ، فلو لا أن حبّ قد خلط بذا ، حتى صارا معا كالجزء الواحد ، وخرجا
عما عليه الفعل والفاعل في فرش هذه اللغة ، لقالوا : حبّذه هند ، وحبّذان الزيدان
، وحبتان الهندان ، وحبّ هؤلاء اليزدون والهندات. فامتناعهم من هذه الفصول والفروق
المطردة مع غير حبذا دلالة على امتزاجهما عندهم ، وجريهما مجرى الكلمة الواحدة مما
حدث لهما من الانضمام وقوة التركيب ، فاعرف ذلك.
ويقوّي ذلك
أيضا قول العرب : لا تحبذه بما لا ينفعه ، أي لا تقل له حبذا ، فاشتقاقهم الفعل
منهما أقوى دلالة على شدة امتزاجهما. فهذا أحد الأدلة.
ودليل ثان ،
وهو أنهم قد قالوا : قامت هند ، وقعدت جمل ، فألحقوا التاء الفعل ، وهي في الحقيقة
علامة تأنيث الفاعل ، فلو لا أن الفعل والفاعل جميعا كالجزء الواحد ، لما جاز أن
يريدوا بالتأنيث شيئا ويجعلوه في غيره ، حتى يكونا معا كالشيء الواحد.
ويدلّ على أنّ
المقصود بالتأنيث إنما هو هند في الحقيقة لا الفعل الذي باشرته ؛ وصيغت معه التاء
، أن الفعل لا يصح فيه معنى التأنيث ، وذلك أنه دالّ على الجنس ، والجنس إلى
الإشاعة والعموم أبدا ، فهو أيضا إلى التذكير ، ألا ترى أنّ أعمّ الأشياء وأشيعها «شيء»
، وشيء مذكر كما ترى ، فهذا يؤكد عندك أن الشيء كلّما شاع وعمّ ، فالتذكير أولى به
من التأنيث ، ولذلك قال سيبويه : لو سميت امرأة بنعم وبئس لم تصرفهما ، لأن
الأفعال كلها مذكرة.
فقد صحّ بما
أوردته أن التاء في قامت هند إنما المقصود بتأنيثها هو الفاعل الذي يصحّ تأنيثه ،
لا الفعل الذي لا يصحّ تأنيثه.