وأقول ثالثا : للعامّة سبيل إلى الظنّ بما هو مراد الله تعالى من أمثال تلك الآيات الشريفة ، بناء على قولهم بأنّ مجتهدي الرعيّة مخاطبون باستنباط الأحكام النظرية من الظواهر القرآنية ، وبأنّ القرآن لم يرد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعيّة وإلّا لزم إغراؤهم بالجهل ، وبأنّ كلّ ما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآله من نسخ وتفسير وتقييد وتخصيص وتأويل وغيرها أظهره عند أصحابه وما خصّ أحدا بتعليم أحكام الله تعالى ورجوع الناس إليه ، ولم يقع بعده صلىاللهعليهوآله فتنة اقتضت إخفاء بعضها وتوفّرت الدواعي على أخذ كلّها ونشرها واستمرّ هذا المعنى من زمن الصحابة إلى زماننا هذا طبقة بعد طبقة وأنّى يكون لأصحابنا سبيل إلى ذلك؟! *
بدليل وإن احتمل ، لأنّ مجرد احتمال عدم الانحصار لا يقتضي وجوب التثبّت فيما سواه. ولو نظرنا إلى ما ذكره المصنّف من الاحتمالات البعيدة لحصلت عند إخبار العدل أيضا فيجب التوقّف ، مع أنّه قد منع من الاحتياج إلى الاجتهاد في العمل بالحديث ، فمن أين يعلم غير من وصل إلى رتبة الاجتهاد انتفاء هذه الاحتمالات حتّى يعمل بالرواية؟ بل لا يكاد يتحقّق خبر خال من أحد هذه الاحتمالات. والاحتمال البعيد لا يؤثّر في قبول خبر العدل ولا يوجب التوقّف عنده.
وأمّا استنباطات الأحكام إذا لم يكن مخالفة ظاهرا لشيء من آثار الأئمّة عليهمالسلام ولا خارجة عن اصولهم ولا راجعة إلى مجرّد الرأي والقياس فما المانع منها عند الحاجة إليها؟ بل هي المأمور بها للمجتهدين عند تعذّر النصّ والعلم بقوله تعالى : ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وبقوله : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) وغير ذلك من الأدلّة. وتخصيص المصنّف الاستنباط في الأحكام بمن خوطب بها يقتضي أن لا يكون خطاب التكليف عامّا لجميع المكلّفين. وهو ظاهر الفساد ، لأنّ خطابه عامّ ؛ غاية الأمر ما حصل فيه الاشتباه على المكلّف يرجع في علمه إلى أهل الذكر ممّن عنده علمه وتفسيره كائنا من كان إذا عرفه على الحقيقة ولو بالواسطة عن أهل العصمة عليهمالسلام.
* إنّ جميع الأحكام الّتي يحتاج إليها المكلّفون يجب على الرسول إعلامها وإظهارها لكافّة الناس. وما نقله عن المخالفين أغلبه صحيح ما أخفى منه الرسول شيئا ، إلّا أنّ أهل الضلال غيّروا وبدّلوا ولم يرجعوا عند الجهل والاشتباه إلى الأئمّة عليهمالسلام بل اعتمدوا على آرائهم وقياساتهم ، فحصل الخطأ والاشتباه من ضلالهم وتقصيرهم ، لا من أنّ الرسول أخفى شيئا عن المكلّفين من أحكام الشرع ولم يظهره لهم. وأمّا بعض الحكم والأسرار الّتي لا يتوقّف عليها