و المعنى الثّاني للاستدراج هو، اللّف و الطّي، كطّي السّجل أو «الطومار» و
لفّه. و هذان المعنيان أوردهما الراغب في مفرداته، إلّا أنّ التأمل بدقّة في
المعنيين يكشف أنّهما يرجعان إلى مفهوم كلي جامع واحد: و هو العمل التدريجي.
و بعد أن عرفنا معنى الاستدراج نعود إلى تفسير الآية محل البحث.
يقول سبحانه في الآية الأولى: وَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ.
أي سنعذبهم بالاستدراج شيئا فشيئا، و نطوي حياتهم.
و الآية الثّانية تؤكّد الموضوع ذاته، و تشير بأنّ اللّه لا يتعجل بالعذاب
عليهم، بل يمهلهم لعلهم يحذرون و يتعظون، فإذا لم ينتبهوا من نومتهم ابتلوا بعذاب
اللّه، فتقول الآية وَ أُمْلِي لَهُمْ.
لأنّ الاستعجال يتذرع به من يخاف الفوت، و اللّه قوي و لا يفلت من قبضته أحد إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ.
و «المتين» معناه القوي المحكم الشديد، و أصله مأخوذ من المتن، و هو العضلة
المحكمة التي تقع في جانب الكتف (في الظهر).
و «الكيد» و المكر متساويان في المعنى، و كما ذكرنا في ذيل الآية (54) من سورة
آل عمران، أنّ المكر يعني في أصل اللغة الاحتيال و منع الآخر من الوصول إلى قصده.
و يستفاد من الآية- آنفة الذكر و آيات أخرى و بعض الأحاديث الشريفة الواردة-
في شأن الاستدراج، أو العذاب الاستدراجي، أنّ اللّه لا يتعجل بالعذاب على الطغاة و
العاصين المتجرئين وفقا لسنته في عباده، بل يفتح عليهم أبواب النعم. فكلّما
ازدادوا طغيانا زادهم نعما.