و ذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء و الرفاه فهم في غفلة و لما يكون لديهم
استعداد و قابلية لقبول الحق. أمّا عند ما يتورّطون في المحنة و البلاء، يشرق نور
فطرتهم و توحيدهم و يتذكرون اللّه قهرا بلا اختيار، و تستعد قلوبهم لقبول الحق.
و لكن هذه اليقظة و النهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء، فهي في كثير من
الناس سريعة و عابرة و غير ثابتة، و بمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم و
غفوتهم، و لكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة، و
يعودون إلى الحق إلى الأبد.
و الأقوام الذين جرى الحديث- في الآيات السابقة- حولهم كانوا من النمط الأوّل.
و لهذا قال تعالى في الآية اللاحقة: عند ما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها و
مسيرها تحت ضغط المشكلات و الحوادث، بل بقوا في الضلال، رفعنا عنهم المشكلات و
جعلنا مكانها النعم و الرخاء فازدهرت حياتهم و كثر عددهم و زادت أموالهم ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى
عَفَوْا.
و «عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحيانا بمعنى الكثرة، و أحيانا بمعنى الترك
و الإعراض، و تارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. و لكن لا يبعد أن يكون أصل جميع
تلك الأمور هو الترك، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر، و يتوالد و
يتناسل و يزداد، و ربّما يترك حتى يهلك و ينهدم تدريجا و شيئا فشيئا. و لهذا جاء
بمعنى الزيادة و الهلاك معا.
و قد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضا:
الأوّل: أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه- في فترة
الشدّة و الضراء- من الأفراد و الأموال.
الآخر: أنّنا أعطيناهم نعما كثيرة جدا بحيث غرتهم، فنسوا اللّه، و تركوا شكره.
الثّالث: أنّنا أعطيناهم نعما كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة