و هذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعد ما جاءتهم البيّنة، لكن الآيات التالية تدل
على غير ذلك، اللّهم إلّا إذا قيل أنّ المقصود إيمان مجموعة منهم و إن كانت قليلة
و تكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق «موجبة جزئية».
و لكن على أي حال نستبعد هذا التّفسير، و يبدو أنّ الفخر الرازي لهذا السبب
وصف الآية الاولى من هذه السّورة بأنّها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات
التالية، و لحل هذا التعارض ذكر طرقا متعددة أفضلها هو الذي ذكرناه أعلاه.
ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ اللّه لا يترك أهل الكتاب و المشركين لحالهم حتى
يتمّ الحجّة عليهم و يرسل إليهم البيّنة و يبيّن لهم الطريق. و لذلك أرسل إليهم
نبيّ الإسلام لهدايتهم.
بناء على هذا التّفسير، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم
الكلام و تقرر أن اللّه يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم [1].
على أي حال، «البيّنة» في الآية هي الدليل الواضح، و مصداقها حسب الآية
الثّانية شخص «رسول اللّه» و هو يتلو عليهم القرآن.
«صحف» جمع «صحيفة»، و تعني ما يكتب
عليه من الورق، و المقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم
صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يتلو شيئا عليهم من الأوراق.
و «مطهرّة» أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك و الكذب و الباطل. و من تلاعب شياطين
الجن و الإنس. كما جاء أيضا في قوله تعالى: لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ[2] جملة فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من
[1]- يجب ملاحظة أن «منفكين» جمع
(منفك) يمكن أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول، فعلى التّفسيرين الأوّل و الثّاني
تعطي معنى اسم الفاعل، و على التّفسير الثّالث معنى اسم المفعول، فلاحظ.