ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة ، وليست مما أعطيه الاِنسان من خلقه وطباعه. وكذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم ، ولهذا صار يختلف في الاَمم المختلفة بألسن مختلفة ، وكذلك الكتابة ككتابة العربي والسرياني والعبراني والرومي وغيرها من ساير الكتابة التي هي متفرقة في الاَمم ، إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام.
فيقال لمن ادعى ذلك إن الاِنسان وإن كان له في الاَمرين جميعاً فعل أو حيلة ، فإن الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة عطية وهبة من الله عز وجل في خلقه ، فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للاَمور ، لم يكن ليتكلم أبداً ، ولو لم يكن له كف مهيأة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبداً ، واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة. فأصل ذلك فطرة الباري عز وجل ، وما تفضل به على خلقه ، فمن شكر أثيب ، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
بحث في دور الفطرة والنبوة في الحياة الاِنسانية
ـ تفسير الميزان ج ١٠ ص ١٢٨
قوله تعالى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغياً بينهم.
قد مر أن المراد به الاِختلاف الواقع في نفس الدين من حملته ، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. الروم ـ ٣٠ ....
على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة ولكن تنافي التعمد والبغي ، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الاِلَهية ، قال تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. البقره ـ ٣٩ ، والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد. وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاِختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم ....