ثم ان هنا وجها آخر لتقديم أخبار البراءة على خصوص أخبار الاحتياط و هو ان اخبار البراءة كقوله عليه السلام: (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) نصّ في عدم وجوب الاحتياط، و اخبار الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها ظاهرة في وجوبه. و الجمع العرفي يقتضى رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بسبب النص. و حمله على الرجحان الجامع بين الوجوب و الندب. و هذا الوجه لا يجري بالنسبة إلى اخبار التوقف، لأن العلة المذكورة فيها و هي الوقوع في الهلكة تجعلها نصا في عدم جواز الاقتحام، إلا انه قد ذكرنا قصورها عن الدلالة على الحكم المولوي في نفسها.
ثم انه ربما يتوهم ان اخبار التوقف و الاحتياط- على تقدير تمامية دلالتها- تتقدم على اخبار البراءة، لأن المرفوع بحديث الرفع و نحوه هو ما لا يعلم من الأحكام، و وجوب الاحتياط بناء على استفادته من الاخبار معلوم فهو خارج عن أدلة البراءة موضوعا.
و هو مدفوع بأنه انما يتم ذلك لو كان وجوب الاحتياط نفسيا. و أما لو كان وجوبه طريقيا كما هو المفروض، فالمترتب عليه هو لزوم امتثال الحكم الواقعي المجهول. و حديث الرفع يرفعه، فتقع المعارضة بين الدليلين لا محالة و قد عرفت تقدم حديث الرفع و أمثاله على أدلة التوقف و الاحتياط.
[الاستدلال بحكم العقل على الاحتياط]
(الثالث)- مما استدل به على وجوب الاحتياط- حكم العقل و تقريبه بوجوه:
(الأول)- ان كل مسلم يعلم إجمالا في أول بلوغه بتكاليف إلزامية، و هذا العلم الإجمالي ينجز التكاليف الواقعية على تقدير ثبوتها، و ليست الطرق و الأمارات رافعة لتنجزها، إذ لا بد في انحلال العلم الإجمالي من ثبوت دليل