وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح [١] على نفسه ، ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى تغرق الفرش من دموعه ، ويقع داود [٢] فيها مثل الفرخ يضطرب ، فيجيء ابنه سليمان ، فيحمله فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ، ثم يمسح بها وجهه ويقول : يا رب / / اغفر ما [٢٧ / أ] ترى فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدنيا لعدله.
قال وهب : ما رفع داود رأسه حتى قال له الملك : أول أمرك [٣] ذنب وآخره معصية ارفع رأسك ، فرفع رأسه ، فمكث حياته لا يشرب ماء إلا مزجه [٤] بدموعه ، ولا يأكل طعاما إلا بله بدموعه.
وذكر الأوزاعي [٥] مرفوعا إلى الرسول ، 6 ، قال : «إن مثل عيني داود كالقربتين ينطفان [٦] ماء ولقد خدّت الدموع في وجهه كخديد الماء في الأرض» [٧].
قال وهب : لما تاب الله على داود قال : يا رب غفرت لي فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فاستغفر منها وللخاطئين إلى يوم القيامة قال : فوسم الله خطيئته في يده اليمنى ، فما رفع طعاما ولا شرابا إلا بكى إذا رآها ، وما قلم خطيبا في الناس إلا بسط راحتيه ، فاستقبل [٨] الناس ليروا وسم خطيئته ، واستغفر للخاطئين قبل نفسه.
وعن الحسن : كان داود بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين يقول : تعالوا إلى داود الخاطىء ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه ، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته [٩] ، فلا يزال يبكي حتى تبتل من عينيه ، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل [١٠] ويقول : هذا أكل الخاطئين ، وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف
[٥] الأوزاعي : عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، من أوعية العلم ، كثير الحديث والعلم والفقه ، توفي عام ١٥٧ ه / ٧٧٣ م ؛ ينظر : ابن خلكان ٢ / ٣١٠ ؛ الذهبي ، تذكرة ١ / ١٧٨ ؛ ابن العماد ٢ / ٢٤١ ؛ الجابي ٤٠٢.