اسم الکتاب : سراج الملوك المؤلف : الطرطوشي، أبوبكر الجزء : 1 صفحة : 45
الباب الأول في مواعظ الملوك
لقد خاب من كان حظّه من اللّه الدّنيا اعلم أيها الرّجل- و كلّنا ذلك
الرّجل- أنّ عقول الملوك و إن كانت كبارا، إلا أنها مشغوفة بكثرة الأشغال، فيستدعي
من الموعظة ما يتولّج عن تلك الأفكار، و يتغلغل في مكامن تلك الأسرار، فيرفع تلك
الأستار، و يفك تلك الأكنّة[1] و الأقفال،
و يصقل ذلك الصدأ و الرّان[2].
و قال الله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا
قَلِيلٌ [النساء: 77]. فوصف الله تعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل، و أنت
تعلم أنك ما أوتيت من ذلك القليل إلا قليلا، ثم ذلك القليل، إن تمتعت به و لم تعص
اللّه فيه، فهو لهو و لعب، قال الله تعالى: وَ ما هذِهِ
الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ[3]
[العنكبوت: 64]. ثم قال:
فلا تبع أيها العاقل لعبا قليلا يفنى، بحياة الأبد حياة لا تفنى و
شباب لا يبلى، كما قال الفضيل[4]- رحمه
الله- لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، و كانت الآخرة خزفا يبقى، لوجب أن نختار خزفا
يبقى على ذهب يفنى، فكيف و قد اخترنا خزفا يفنى، على ذهب يبقى؟!
تأمل بعقلك، هل أتاك الله من الدنيا ما أتى سليمان بن داود 8؟ حيث آتاه ملك جميع الدنيا، و الإنس و الجن، و الطير و الوحش و الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ[5] [ص: 36] ثم زاده الله ما هو أعظم منها، فقال تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ [ص: 39] فو الله
[1] - الأكنة: الستائر و الأغطية، أكنة الشيء: ستره و
وقاؤه.
[2] - الران: الغطاء و يطلق على الدنس و على الصدأ
أيضا. سقطت من« ط»: قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ[ المطففين: 14].
[3] - و تمام الآية: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ
الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
[4] - الفضيل: هو الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي، شيخ
الحرم المكي و من أكابر العبّاد الصالحين الزاهدين، توفي سنة 187 ه( حلية الأولياء
8/ 84، و طبقات ابن سعد 5/ 500).