و أما أصل البسط الذى هو توسعه بحكمة، فغير
منهى عنه لأنه لا ضرر فيه.
و حذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف و التقتير بقوله: فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً
فالبخيل الممسك ملوم من اللّه تعالى.
و من العباد- إذا- من لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه، على أنه سيلوم
هو نفسه بعد الموت، و المسرف ملوم من الجميع، و من نفسه بعد ضياع ما فى يده!
(و المحسور): المتعب المضنى، الذى انكشفت عنه القوة، و لم تبق به
قدرة على شيء، تقول العرب، حسرت البعير، أى: أضنيته و أتعبته بالسير، حتى لم تبق
به قدرة عليه.
و الجمل لا يقطع الطريق و يصل إلى الغاية إلا إذا حافظ صاحبه على ما
فيه من قوة؛ فسار به سيرا وسطا، أما إذا أجهده و استنزف قوته، فإنه يسقط كليلا
محسورا: فلا قطع طريقه، و لا وصل منزله، و لا أبقى جمله!
فكذلك الإنسان فى طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه
بحكمة نفع به و انتفع، و بلغ غاية حياته هادئا راضيا، و إذا بسط يده فيه كل البسط
أتى عليه فانقطع النفع و الانتفاع، و لم يبلغ غاية حياته إلا بأتعاب و مشاق.
و علم من هذا أن قوله: ملوما يرجع للمقتر و المسرف، و قوله:
مّحسورا يرجع للمسرف فقط، و لكن لما كان المحسور هو الذى ذهبت قوته فلا قدرة
له على شيء، فقد نقول: إن البخيل أيضا مبغوض، من الناس مخذول منهم، فلا يجد فى
ملماته معينا، و لا فى نوائبه معزيا، فهو أيضا ضعيف الجانب لا قوة له، فالمسرف ضيع
المال، و البخيل ضيع الإخوان، فكلاهما مكسور الظهر، عديم الظهير.
المخاطب بالاعتدال:
و المخاطب بهذا الخطاب:
إما مفرد غير معين؛ فيشمل جميع المكلفين غير النبى صلى الله عليه و
سلم لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء اللّه عليه (النضير، و فدك، و خيبر).
ثم يصرف ما بقى فى الحاجات حتى يأتى أثناء الحول، و ليس عنده شيء، و لا كان ملوما
محسورا، بل كان على ذلك صبارا شكورا مشكورا.
و إما هو النبى صلى الله عليه و سلم و المراد أمته: و عادة العرب أن
تخاطب سيد القوم، تريد القوم، و تعبر بالمتبوع عن أتباعه، و نظير هذه الآية فى
ذلك: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) [الزمر: 65].
فالنبى صلى الله عليه و سلم غير داخل فى هذا الخطاب بإجماع.