قَوْلًا كَرِيماً (23)،
و فى هذا أمر بأن يخاطبهما بجميل القول، و يؤنسهما بطيب الحديث، و نهى عن أن
يؤذيهما فى قول، أو يوحشهما بطول السكوت، فليس له أن يتركهما و شأنهما، بل عليه
مجالستهما و محادثتهما، و جلب الأنس إليهما، و إدخال السرور عليهما.
ثم إن القول إنما هو عنوان ما فى الضمير، و لا يكون كريما شريفا إلا
إذا كان عنوانا صادقا، حسن مظهره و مخبره، و عذب جناه، و طاب مغرسه، و ما ثماره
إلا معانيه، و ما مغرسه إلا القلب الذى صدر عنه.
فيفيد هذا أن على الولد أن يكون معهما باللطف و العطف من صميم قلبه،
كما يعرب لهما بلسانه، فيكون محسنا لهما حينئذ فى ظاهره و باطنه، و ذلك هو تمام
البر الذى أمر به.
مضى فيما تقدم أدب القول، و هذا أدب الفعل، و بيان الحال التى يكون
عليها:
فالوالدان عند ولدهما فى كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت و
الدفء و الراحة، و ولدهما يقوم لهما بالسعى، كما يسعى الطائر لفراخه، و يحيطهما
بحنوه و عطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد فى سعيه و حنوه و عطفه على والديه
بالطائر فى ذلك كله على فراخه، و حذف المشبه به، و أشير إليه بلازمة و هو خفض
الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، و إنما يخفض جناحه حنوا و عطفا و حياطة لفراخه
... فيكون فى الكلام استعارة بالكناية.
و أضيف الجناح إلى الذل- و هو الهون و اللبن- إضافة موصوف إلى صفة:
أى:
اخفض لهما جناحك الذليل، و هذا ليفيد هونه و انكساره عند حياطتها ...
حتى يشعر بأنهما مخدومان باستحقاق، لا متفضل عليهما بالإحسان.
صورة بليغة:
و فى ذكر هذه الصورة التى تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق للقلب موجب
للرحمة، و تنبيه للولد على حالته التى كان عليها معهما فى صغره، ليكون ذلك أبعث له
على العمل و عدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه.
و (من) فى قوله تعالى: (من الرحمة) للتعليل، متعلقة ب (اخفض)، فتفيد
مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئا عن الرحمة الثابتة فى النفس، لا عن
مجرد استعمال ظاهر، كما كانا يكنفانه و يعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة، فيكون
هذا مفيدا و مؤكدا