إنّ
من النواميس الأوّلية والضرائب الطبيعية التي لم تعتورها[1]
عوامل الدثور والظهور ولم تغيّرها فواعل التبدّل والتحوّل أنّ أوّل خطوة فكرية
يتخطّاها هذا الكائن الحي الحسّاس الناطق من مجهلة الحيوانية إلى معالم الإنسانية بعد
ما طوى شطراً من صحيفة أيّامه في بلهنية العيش[2]
وسذاجة الخيال وفراغ البال، إلّامن تقاضي مقوّمات مادّي حياته والدفاع عمّا يحسّ
به من مؤلمات واهن وجوده، أوّل قدم يضعها في مفازة البحث والنظر بعد تلك النعسة
الطبيعية وأسبق روح دبّ فيه بعد هاتيك الميتة الجاهلية، هو ما بثّته فيه لحظة
العناية من تطلّب الأسباب والعلل لسائر ما يقع عليه حسّه من حوادث الطبيعة وكوائن
المادّة، ولا سيّما الكوائن الفجائية التي لم يرضخ لها ولم يعتدّ عليها ولم يتكرّر
له شهودها، يستغرب ويعجب من طلوع الكوكب المذنّب ما لا يستغربه لبزوغ الشمس وطلوع
القمر، يندهش للخسوف والكسوف ولا يندهش لمغيب الشمس كلّ ليلة ومحاق القمر كلّ شهر،
والغاية في الجميع واحدة وإن اختلفت الأسباب وتعدّدت المبادي. بيد أنّه يندفع
بدافع الغريزة إلى التقاضي والطلب لمعرفة سبب كلّ حادث وكائن أيّاً ما كان، غير
أنّ هذه الحركة الفكرية قد تكون حالًا، أعني: مرور
[1] تعاورت الرياح رسماً حتّى عفّته، أي: تواظبت
عليه.( العين للفراهيدي 2: 239).
[2] يقال: هو في بُلَهنِية من عيشه، إذا كان في رخاء
وعزّة.( جمهرة اللغة 2: 1223).