responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : نظرات و تأملات المؤلف : كاشف الغطاء، الشيخ علي (ابن محمد رضا)    الجزء : 1  صفحة : 3

وربما يتخيل القارئ الكريم من سرد ما تقدم من العوامل الموجبة لتضيع الحقائق التاريخية انها موجودة في كتاب العرب و إن كان قد يلمس بعضها من بعض كما سننبه عليه فيما بعد ولكنها شقشقة هدرت وشعلة في النفس قد أضرمت أججها ناموس تتابع الأفكار و أثارتها الذكريات الماضية فلنعد إلى ما هو المهم في المقام فنقول:

إن الكتاب وإن كان بلغة سهلة التناول فيها طلاوة وطراوة ولكن لم يبلغ حدّ الإبداع في التعبير كما نشاهده في كتاب هذا اليوم: اجل هو كتاب علمي لا يخلو من تأملات دقيقة ونظرات بعيدة وتحاليل فلسفية مشبعة بسعة الاطلاع وكثرة التتبع إلا أنه استوقف نظري فيه أمور.

إيمان البدوي‌

منها قوله: ص 16 (و أما الشعور الديني في قلب البدوي فسطحي ولم يفت القرآن التصريح بذلك فقد جاء فيه قوله الأعراب اشد كفراً ونفاقا من سورة التوبة ولا يزال الأمر كذلك إلى يومنا هذا فليس يتعدى إيمان البدوي بالنبي الاعتراف اللفظي).

لا اعلم من أين اخذ المؤلف الكر يم هذا الحكم مع إن لأهل البادية مواقف مشهورة سجلها التاريخ مع قادة المسلمين ورجال الدين قد ارتكزت على قناعتهم الدينية و إيمانهم الراسخ فهذا حنظلة الاسدي لما أسره الفرس مع ولده الحارث في حرب القادسية طلب منه القائد أن يشرح له مواطن الضعف في الجيش العربي ومناه بالعطاء الجزيل فقال له اقتل ولدي أمامي حتى يخلو لي الجو فأستطيع أن أبوح بالسر فلما قتل ولده قال له القائد نفذنا أمرك فخبرنا الخبر فأجابه حنظلة: ثكلتك الثواكل تريد أن اكون جاسوساً على أهل ملتي لقد ضحيت في سبيل الله فلذة كبدي ومن قبل قدمت أخويه ضحية في سبيل الله و أني خشيت أن تغري ولدي الصغير فتغويه ويبوح لك ببعض السرّ بعدي أما وقد قتل فليس هناك ما أخشاه فهاك نفسي ضحية للواجب الديني.

فهذا الحادث وما ناظره قد ملئت منه كتب التاريخ إلى حواشيها وقد شحنت منه سجلات السير إلى حوافيها وهو ييعطيك صورة جلية عما هو في طيات جنان البدوي من العقيدة وما هو مغروس في صميم نفسه من الإيمان.

ولو صرفنا النظر عن التاريخ و استعرضنا ما نشاهده ونلامسه من بدات العراق و الحجاز ونجد بل و الشام في أيامنا هذه وجدنا هذا الشعب الحار من أقوى الشعوب تصلباً لمبدئه و اشدها تمسكاً بدينه: قد غارت عقيدتهم في أعماق قلوبهم و التاطت في دخائلهم يتاجر لها بدمه ويضحي لها بحياته بعزم قدّ من حديد وثبات أقوى من الصخر الأصم.

وهذه المدنية الغربية التي انجرف بها الشرق و أخذها بما فيها من مساوئ ورذائل و أصبحت أصلًا تستباح به كل عصمة أدبية و أساساً يعتمد عليه في كل دعارة ورذيلة لم تؤثر على وضع البدوي ولا شكله ولم يكن لها أي شأن في تفكيره الديني رغم ما اصبح من ارتباطه بها و احتياجه إليها في اكثر شؤونه الحيوية.

ومن الغريب جداً أن يتهم البدوي بلين العقيدة و الإيمان اللفظي مع أن شعوره الديني شعور أملته عليه الفطرة ودفعته إليه الركيزة بلا درس ولا محاكمة عقلية فإن مناخ البدوي وطبيعة عيشه ومناظر الطبيعة في الفيافي و القفار تمكن العقيدة من نفسه، وهكذا تقلبات الأجواء وحصول الثراء وزكاة الأموال ونموها كلها تحصل عند البدوي بالصدفة و الاتفاق دون أن يكون له فيها سعي أو عمل وهذا ما يزيد في وعيه الإلهي وشعوره الديني بأن للكون مدبراً ومسيراً هو وراء العمل و السعي.

اسم الکتاب : نظرات و تأملات المؤلف : كاشف الغطاء، الشيخ علي (ابن محمد رضا)    الجزء : 1  صفحة : 3
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست