responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الكلم الطيب المؤلف : كاشف الغطاء، علي    الجزء : 1  صفحة : 37

الأدب في محيط الخيال‌

ليس الأدب في هذا المحيط هو ما خط القلم عن القراطيس من نثر أو نظم يمتاز بحسن الاستعارة ورقة التشبيه، أو هو ما نطق به اللسان من الشعر أو الكلام بالمحسنات اللفظية والمعنوية كما توهم بعض الناس مجموعة قصص تتلى عند الفكاهة، أو أباطيل من طرفة تذكر في أوقات المسامرة، وإنما الأدب هو البيان الذي يستمد غذائه مما يمكن من أسرار العالم وأطوار الحياة، فإن الأسرار ما برحت كائنة في كل شي‌ء، وما زالت تصادف من هذا الكاتب وذاك الشاعر من يبرزها إلى حيز الوجود في هذه الصورة، أو تلك في مقادير مختلفة من الوضوح والجلاء وبدرجات متفاضلة من البيان وجمال التعبير كل على حسب ناموس فضله وفضيلته والأدب ليس إلا كشف وجلاء لبدائع الطبيعة ونواميس الحياة، وهو معرض أفكار النفوس الحية والأرواح الحساسة التي لم تبرح كل ما ينتابها من عوامل الوجود، وتنشد كل ما شاهدته من بيضات الحياة ألا وإن الأدب هو هذه القصيدة والرسالة، وتلك المقالة والرواية التي ينشدها صاحبها لا يريد بها إلا الجمال الفني في نفسه لا يريد بها إلا أن تظهر شعورا اشتملت عليه نفسه وأحس به ضميره، أو خاطره كونه عقله في لفظ يناسبه وكلام يلائمه في الرقة والعذوبة واللين والروعة والعنف والخشونة هو هذه الآثار التي تصدر عن صاحبها كما يبعث النور الأثير من القمر المنير وكما يصدر التغريد من البلبل الصداح عندما يميل به الغصن الرطيب وكما ينبعث العرف من الزهرة الأرجة.

هذا هو الذي اضطر الشاعر إلى إنتاجه والكاتب إلى كتابته اتصاله بالآثار الطبيعية التي تمثل طورا من أطوار الحياة في نفوسنا وناحية من أنحاء الجمال التي في قلوبنا إذن فالأدب هو الذي خصّ بجمال التنسيق ورنة الوقع وصحة الفكر ودقة البيان عما تحدثه بدائع الطبيعة في أوتار قلبه من التأثير فيه، هو الذي لا يزال يخضع لكل ما تخضع له التأثيرات النفسية من الزمان والبيئة والمحيط والجماعة إلى غير ذلك من المؤثرات.

الأدب والأديب‌

إليكم أيها الأفاضل أوجه كلماتي حول معرفة هذا الموضوع المبهم الذي لم يزل سراً غامضاً ولغزاً مبهما لما هو مطروح من أراء المفكرين ومحل تصادم نظرياتهم، فكل ذهب إلى مذهبه حيث أستوت كتباً ضخمة مشحونة إلى حواشيها بكل ما تخيله المتخيلون وكد فيه الباحثون حتى ادعى بعضهم أن الأدب صعب، وها أنا حاسر عن ذراعي لحل هذا السر المبهم واللغز المعمى عسى ولعل أن أظفر بالحقيقة وأصل إلى كنهه، باذلًا كل وسعي وجهدي على مقدار ناموس فضلي وفضيلتي.

على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يساعده الدهر

إن الأدب في محيط الاصلاح معنى وفي محيط الخيال معنى آخر، وطالما حصل الخلط بين هذين المعنيين فتشب نار الاختلاف وتتضارب الآراء والأفكار. أما الأدب في محيط الإصلاح ليس إلا هو الطبيعة الإنسانية في أفضل معانيها وأحسن مبانيها والنفس البشرية بأجمل مظاهرها وأفضل حالاتها. والأدب، وهو ميزان الطبيعة العادلة لا يعطي للأفراد إلا ما يستحقونه كما هو الكلمة الجامعة لمحاسن الأشياء سواء أكانت من الأفعال أم الأقوال. كيف ولا زالت الأحكام والشرائع من ظواهره وتخيلاته، وإن ما يرفع البلاد نحو العظمة ويمد سطوتها المادية والأدبية ويجعلها مسيطرة على سائر الأمم ليس إلا الأدب، كيف وهو مبدأ الطاعة وأساس العظمة وإلى مفعوله يستند عرش السلطة وصولجان القوة.

إن الناس لا تكاد تنجح في مشروعها الحيوي إلا إذا استعانت بذوي العقول الحاذقة وتبعث إرشادات الآداب الحسنة، وقد سجل التاريخ مراراً ترشدنا إلى هذه الحقيقة وأهميتها في محيط النجاح.

فأن رجلًا قال لبعض العقلاء، مالك لا تجمل الملبوس وزينة الثياب تدل على حسن الفطنة، فقال العاقل: إنما يرفع المرء أدبه وعقله لا حليته وحلته، قاتل الله امرئ يرضى أن ترفعه هيئته وجماله لا أدبه وعقله.

لكل شي‌ء زينة في الورى‌

وزينة المرء تمام الأدب‌

والأدب تستمد نفسيته من أمور ثلاثة:

أولها: حسن السلوك إذ به يستطيع الإنسان في حياته الفردية أن يكون ذا منزلة بين قومه وصحبه.

قد يشرف المرء في آدابه‌

فينا وإن كان وضيع الحسب‌

ثانيها: الاعتماد على النفس إذ به تستطيع النفس الإنسانية أن تنال مطلوبها حيث يقوى العزم بالاعتماد على الذات ويضعف عند الاعتماد على الغير.

و إنما رجل الدنيا وواحدا

من لا يعول في الدنيا على رجل‌

ثالثها: المثابرة على العمل إذ بها يتوصل الإنسان لأمانيه بأقرب مدة وأقصر زمان، إذ إن فلاح البشر في سبيل الحياة العامة منوطا بسعيهم وعملهم، وأكثرهم أقداماً وأمضاهم عزيمة، أنجحهم وقد قيل:

الجد في الجد و الحرمان في الكسل‌

فما تصيب قريب غاية الأمل‌

فهذه هي الصفات الأولية التي تتكون منها الروحية الأدبية، وأما الحلم والمروءة والوفاء والإنصاف وحسن الخلق والصدق والأمانة فهي وإن كانت لها مدخل في أدبية النفس البشرية إلا إنها عوامل ثانوية ترجع إلى حسن السلوك، إذ ليس الحلم إلّا التغلب على عوامل الغضب مع التجنب عن الانتقام وليس الوفاء إلا الخضوع إلى ناموس الأخوة وعامل الصداقة وليس الإنصاف إلا استيفاء الحقوق من نفسه لغيره، ومن غيره لنفسه وليس الصدق إلا التجنب عن التحلي بغير المظهر الحقيقي، وليست الأمانة إلا ترك التعدي على ما جعل تحت السيطرة العامة أو الخاصة، وليست المروءة إلا إغاثة الملهوف وإعانة الضعيف والعدل في الحكم والكف عن الظلم وليس حسن الخلق إلا أن يكون الشخص لين الجانب حلو الوجه قليل النفور طيب الكلمة.

لقد تناول هذا الموضوع المفكرون وتصادمت نظرياتهم فيه فكل ذهب إلى رأي إن للأدب في محيط السير والسلوك معنى، وفي محيط الخيال معنى أخر وطالما حصل الخلط بين هذين المعنيين فشبت نار الاختلاف وتضاربت الآراء والأفكار.

ولولا الخوف من الضجر من كثرة الكلام في هذا الموضوع لأقمت البراهين العلمية والدلائل النقلية المبرمة المحكمة إن هذا هو الأدب في محيط الإصلاح وعند علماء الأخلاق وأما الأدب في محيط الخيال فقد مرّ الكلام عليه في الكلم الطيب.

كيف تكون آراءنا صحيحة؟

إن المجتمع الإنساني من نظر إليه بالنظر الدقيق رأى أن الأعمال التي رفعته من الهمجية المحضة إلى الرقي المادي والأدبي إنما تستند إلى الرأي الصحيح والفكر الصائب والنظر الدقيق. فالجدير بنا أن نبحث عن طرق الوصول إليه لنتخذه نبراسا لإضاءة ظلمات الحياة وآلة للظفر للأعمال الحسنة. إن المثابرة على العمل والنشاط والشجاعة وإن كانت لها مدخل في صرع الطبيعة العمياء إلا أنها ليست جوهرية بالنسبة إلى الفكر الصائب والرأي السديد.

الرأي قبل شجاعة الشجعان‌

هي أول وهي المحل الثاني‌

فإذا هما اجتمعا لنفس واحد

بلغا من العلياء كل مكان‌

وللحصول على الرأي الصحيح والعقل السليم يتأتى لنا بأمور:

أولا: تكون واثقا من نفسك بحصولك على مرامك إما إذا كنت مرتابا في ذلك، فالنجاح لا يكون مضمونا لك.

اسم الکتاب : الكلم الطيب المؤلف : كاشف الغطاء، علي    الجزء : 1  صفحة : 37
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست