responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الـفتوحات المکیة المؤلف : ابن عربي، محيي الدين    الجزء : 3  صفحة : 176

ما كان التكوين واقعا لأن حكمها الاعتدال و الاعتدال يقابل الميل و لا يكون التكوين إلا بالميل و لما علم النبي ص من اللّٰه أنه ما أوجد العالم إلا بترجيح أحد الإمكانين

قال رسول اللّٰه ص لقاضي الدين إذا وزنت فارجح فإن الممكن الوجهان فيه على السواء فما أوجده اللّٰه إلا بالترجيح ثم إن اللّٰه ذكر عن نفسه ما كان عليه و لا عالم فذكر عن نفسه أنه أحب أن يعرف فرجح جانب المعرفة به على مقابله فخلق العالم بالترجيح لجانب العلم على مقابله فلما وازن اللّٰه بين الرحمة و الغضب رجحت الرحمة و ثقلت و ارتفع الغضب الإلهي و لا معنى لارتفاع الشيء إلا زوال حكمه فلم يبق للغضب الإلهي حكم في المال فإنه في المال وقع ترجيح الرحمة و ارتفاع الغضب لخفته فما ظهر حكم الغصب إلا في حال وضع الغضب و الرحمة في الميزان فحكم كل واحد منهما في العالم إلى أن يظهر الترجيح فيرتفع حكم الغضب و ما قلنا هذا إلا ردا لما قاله من يدعي الكشف فقال في الموازنة الإلهية إن اللّٰه لا يحكم عدله في فضله و لا فضله في عدله و إن القبضتين على السواء من جميع الوجوه و هذا من أعظم الغلط الذي يطرأ على أهل الكشف لعدم الأستاذ و ما يقول هذا إلا من لم يكن بين يدي أستاذ قد رباه أستاذ متشرع عارف بموارد الأحكام الشرعية و مصادرها فإن اللّٰه ما نصب طريقا إلى معرفته التي لا يستقل العقل بإدراكها من حيث فكره إلا ما شرعه لعباده على ألسنة رسله و أنبيائه و إنما قلنا هذا لما علمنا إن ثم طريقا آخر يقتضيه الوجود و يحصله بعض النفوس الفاضلة فأردنا إن نرفع الإشكال و ذلك أن النفوس تصفو بالرياضة و ترك الشهوات الطبيعية و الاستغراق في الأمور المحسوسة و تتشوق إلى ما منه جاءت و ما أريدت له و إلى أين ما لها و ما مرتبتها من العالم و علمت من ذاتها إن وراء هذا الجسم أمرا آخر هو المحرك له و المدبر لما عاينت من الموت النازل به فتنظر إلى آلاته على كمالها و لا ترى له تلك الإدراكات التي كانت له في زمان وصفه بالحياة فعلمت أنه لا بد من أمر آخر هناك لا تعرف ما نسبته إلى هذا الجسم هل نسبة العرض إلى محله أو المتمكن إلى مكانه أو الملك إلى ملكه

[إن بين الموت و النوم فرقانا]

ثم علمت إن بين الموت و النوم فرقانا بما تراه في النوم من الصور و ما تستفيده من الأحوال الملذة و المؤلمة و سرعة التغير في صورة النائم من حال إلى حال و لم تر ذلك في صورة الجسم ثم تستيقظ فترى الجسم على حاله في صورته ما تغير و ترى انفعال الجسم في بعض الأوقات لما يطرأ للنائم في حال نومه مثل دفق الماء في الاحتلام عند رؤية الجماع في النوم فعلمت بهذا كله إن وراء هذا الجسم أمرا آخر بينه و بين هذه الصورة علاقة ثم إنها رأت تفاوت الأمثال في العلوم و الفهم و افتقار بعضها إلى التعليم و نظرت إلى حال من زهد و فكر و اتخذ الخلوات و لم يأخذ من لذات المحسوسات إلا ما تمس إليه الحاجات مما به قوام هذا الجسم و إن صاحب هذا الحال يزيد على نفس أخرى بعلوم و فضائل يفتقر إليه فيها و في العلم بها فنظرت في الطريق الذي أوصل تلك النفوس دون غيرها إلى هذا المقام فلم تر مانعا إلا انكباب بعض النفوس على تناول هذه المشتهيات الظاهرة الطبيعية و التنافس فيها فزهدت في ذلك كله و تحلت بمكارم الأخلاق و لم تترك لأحد عليها مطالبة و لا علاقة و لم تزاحمهم على ما هم عليه و جنحت إلى الخلوات و رفعت الهمة إلى الاستشراف لتعلم ما هو الأمر عليه فلما كانت بهذه المثابة و كل ذلك نظر منها ما هو عن تقليد شرع إلهي و إنما هو عن فكرة صحيحة و إلهام إلهي ناقص غير كامل لأن الإلهام الكامل أن يلهم لاتباع الشرع و النظر في كلامه و في الكتب التي قيل لنا إنها جاءت من عند اللّٰه فمثل هذا هو الإلهام الأكمل فلما صفت هذه النفس و شفت و صارت مثل المرآة و زال عنها صدأ هذه الطبيعية انتقش فيها صور العالم فرأت ما لم تكن رأته فنطقت بالغيوب و التحقت بالملإ الأعلى التحاق غريب و رد على غير موطنه و هو موطنه و لكن ما عرف لغربته لما سافر إلى أرض طبيعته و بدنه فلم يكن له ذلك الإدلال و لا كمال الأنس بذلك العالم و رأى اشتغال ذلك العالم عنه بالتسبيح و التقديس و ما سخروا فيه من الأعمال في حق هذه المولدات العنصرية فرأت ما يختص منهم بتحريك الأفلاك و تسيير كواكبها و ما يحدث في الأركان منها و علمت ما لم تكن تعلم و أخذت عن الأرواح الملكية علوما لم تكن عندها و ما علمت إن ثم طريقا تصل منه إذا سلكت عليه إلى الأخذ عن اللّٰه منشئ الكل و أن بينه و بينها بابا خاصا يخصها فقالت هذا هو الغاية و ما ثم إلا هؤلاء و نظرت إلى تفوقها بذلك على غيرها من أمثالها فقنعت فكل ما يأتي به من هذا نعته و حاله ليس له ذوق إلهي

اسم الکتاب : الـفتوحات المکیة المؤلف : ابن عربي، محيي الدين    الجزء : 3  صفحة : 176
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست