ثمّ إنّ كلامه هذا مخالف لادّعائه الإجماع على جواز التقليد، وقد رأينا أنّ
الغزالي يرى أنّ أوّل الأدلّة على جواز التقليد، إجماع الصحابة [1].
وعلى هذا الأساس فلا يبعد أنّ كلمات أبيحنيفة وأحمد بن حنبلتتعلّق بالعلماء
الذين يمكنهم استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها، وفي الواقع أنّ كلامهم منصرف عن
الناس العاديين، لأنّ الكثير من الناس اعتنقوا الإسلام وعاشوا في بلدان غير عربية
بحيث لا يمكنهم استنباط الأحكام الشرعية، لا من القرآن ولا من السنّة النبوية، وما
أكثر الأشخاص الأُمّيين بين هؤلاء، فهل يقول أحد أنّ هؤلاء غير مكلّفين بالعمل
بالأحكام الإسلامية؟ كلّا قطعاً، وإذا كانوا مكلّفين- وهو كذلك- فكيف يمكنهم تحصيل
العلم بالأحكام الإسلامية؟ هل هناك طريق آخر غير الرجوع إلى الفقهاء وعلماء الدين؟
إنّ هذا المطلب في درجة من الوضوح بحيث لا أحد يمكنه التأمّل فيه من موقع التشكيك
والتردّد.
أدلّة المخالفين للتقليد:
1. الآيات الكريمة
وقد وردت آيات عديدة في القرآن الكريم في ذمّ التقليد.
يقول ابن حزم الأندلسي: «نحن نملك برهاناً على بطلان التقليد، وذلك أنّ اللَّه
تعالى ذمّ التقليد، حيث تحدّث عن طائفة من المشركين وذمّ تقليدهم لسادتهم:
ويقول الفقيه الكبير آية اللَّه الخوئي: واستدلّوا أيضاً بهذه الآية الواردة
في مقام توبيخ الاتّباع على تقليدهم للآباء: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا»[7].[8]
وفي مقام الجواب نقول: أوّلًا: إنّ هذا النوع
من الآيات الشريفة ينهى عن رجوع الجاهل إلى الجاهل ولا ترتبط بما نحن فيه من تقليد
الجاهل للعالم، والمخاطبون في هذه الآيات في الواقع هم المشركون الجاهليّون الذين
يتّبعون الأشخاص الجهلاء مثلهم لمجرّد الرئاسات الظاهرية وبدافع من العصبيات
القومية، وإلّا فإنّ القرآن الكريم نفسه يوصي بالرجوع إلى «أهل الذكر».
ثانياً: إنّ هذه الآيات ترتبط بأصول الدين، لأنّ ما
يقتبسه المشركون من كبرائهم وسادتهم وآبائهم ويتحرّكون على مستوى السلوك والممارسة
في واقع حياتهم، يعود في الأصل إلى مقولة الشرك والعقائد الخرافية والجاهلية،
وحتّى فيما يتعلّق بشرائعهم الباطلة فإنّها مستوحاة من تلك العقائد الخرافية، ومن
المعلوم أنّ التقليد لا يجوز في أصول الدين. (كما سيأتي الكلام عنه).