التحقيق والتدبّر في الآيات القرآنية ومطالعة سنّة وسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأوصيائه الطاهرين، هذا المنهج الإلهي هو الحقيقة التي تجلّت في كلام الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام عندما سئل عن علّة وجوب معرفة الأنبياء والإيمان بهم ووجوب طاعتهم، فقال في جوابه:

«لأنَّهُ لمّا لَم يَكُنْ في خلقِهم وقولِهم وقِواهُم ما يكملون لمَصالِحهم وكان الصانِعُ مُتَعالياً عن أن يُرى، وكان ضَعفُهم وعَجزُهم عن إدراكه ظاهراً، لم يَكُن بُدٌّ مِن رَسولٍ بينَه وبينَهُم مَعصوم يؤدِّي إليهم أمْرَه ونَهْيَه وأدبَه ويَقِفُهم على ما يكون به إحرازُ مَنافِعهم ودَفعُ مَضارّهم إذ لم يَكُن في خلقِهم ما يعرِفون به مايَحتاجون إليه من مَنافعِهم ومَضارّهم» [1].

الواقع أنّ الغاية الأسمى من «الفقه» وفلسفة جعل الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية، هي الوصول إلى مرتبة عبودية الحقّ تعالى:

«كفى‌ بالمَرءِ فِقْهاً إذا عَبدَ اللَّه» [2]

هذه العبوديّة التي لا تعني سوى السير في خطّ طاعةاللَّه تعالى والعمل بالواجبات والابتعاد عن‌المحرّمات‌

«أفضَلُ الفِقْه الوَرَعُ فِي دينِ اللَّه والعَملُ بِطاعتِه» [3].

إنّ تحقيق حالة العبودية للَّه‌تعالى في واقع الإنسان لا تتيسّر بدون الابتعاد عن القبائح والرذائل واجتناب حالات الكبر والغرور والرياء، وتثبيت التوحيد والإخلاص في واقع العمل والممارسة، ومن هنا كان كتاب «الصلاة» الذي يمثّل أصلًا مهمّاً في الفقه قد ضمن للإنسان الابتعاد عن القبائح والمنكرات: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى‌ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» [4] وضمن له إنقاذه من حالة الكبر والغرور

«فَجَعَلَ اللَّهُ ... الصَّلاةَ تَنزِيهاً لكُم عن الكِبْر» [5]

وكتاب «الصيام» الذي يمثّل قسماً مهمّاً آخر من «الفقه» يكرّس في الإنسان حالة الابتعاد عن الرياء ويعمّق فيه الإخلاص والعبودية في مقام العمل‌

«... والصِّيامَ تثبيتاً للإخلاصِ» [6].

ولمّا كانت العبودية للحقّ تعالى لا تتيسّر بدون إنذار وتوقّي الذنوب والمحرّمات، فإنّ «التفقّه في الدّين» يمكنه أن يمهّد الأرضية اللازمة ل «إنذار الناس» وبالتالي يثير فيهم «الحذر» في مقابل المحرّمات الإلهيّة: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» [7] ومن الواضح أنّ الحذر والتنبّه في مقابل المحرّمات والحدود الإلهيّة لا يتيسّر بدون معرفة المحرّمات ذاتها والتي يتكفّل «الفقه» بيانها، كما أنّ «الرضوان» الإلهي الذي يعدّ نهاية آمال العارفين‌ «وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» [8] لا يتيسّر بدون تحقيق عنصر «الخشية» من اللَّه في واقع الإنسان وروحه‌ «رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» [9] والخشية من اللَّه تعالى لا تتحقّق بدون كسب المعارف اللازمة عن المبدأ والمعاد، وأيضاً بدون معرفة الأوامر والنواهي الصادرة من قِبل الحقّ تعالى:

«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» [10].

«الفقه» مبيّن للحدود الإلهيّة:

إذا كان للحرم الإلهي حدود معينة كما في سائر

[1]. عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 99؛ بحار الأنوار، ج 6، ص 59 و 60.

[2]. كنز العمّال، ج 10، ص 155، ح 28794.

[3]. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 6، ص 71.

[4]. سورة العنكبوت، الآية 45.

[5]. الاحتجاج، ج 1، ص 133، خطبة فاطمة الزهراء عليها السلام.

[6]. المصدر السابق.

[7]. سورة التوبة، الآية 122.

[8]. سورة التوبة، الآية 72.

[9]. سورة البيّنة، الآية 8.

[10]. سورة فاطر، الآية 28.