بالرغم من أنّ قسماً عظيماً من اختلافات فتاوى الفقهاء لا يتّصل بالظروف
الزمانية والمكانية، نظير الاختلافات التي تنشأ من الاختلاف في المباني الرجالية،
والدراية، وفقه اللغة، وتفاوت السطوح والمستويات العلمية للفقهاء، ونظير
الاختلافات التي تنشأ من الاختلاف في بعض المباني الأصولية من قبيل الاختلافات
الكثيرة بين فتاوى ابن إدريس وفتاوى شيخ الطائفة، والباعث على ذلك الميل الشديد
لابن إدريس في اتّباع الاستدلال العقلي واجتناب أخبار الآحاد خلافاً للشيخ الطوسي
الذي يرى حجّية خبر الواحد [1].
وبعض هذه الاختلافات في الفتاوى ناشئة من تأثيرات المتغيّرات الزمانية
والمكانية، نظير الاختلافات في نوع الأسئلة والاستفتاءات التي تنشأ من حاجة زمان
خاصّ أو مكان خاصّ لهذه الأسئلة، ومطالبة الفقهاء بالجواب عنها، مثلًا كان الفقهاء
ولعدّة أجيال يفتون بنجاسة أهل الكتاب، بينما الأجيال اللاحقة أفتوا بطهارتهم،
وفقهاء عصر الحكومة الدينية يختلفون في فتاواهم مع فقهاء عصر غير الحكومة الدينية،
وفقهاء عصر الانترنيت والكامبيوتر فيما يواجهون من أسئلة وحاجات عالمية، فيما سنحت
لهم الفرصة بالقيام بأسفار متعدّدة إلى مناطق أخرى من العالم، فمن الطبيعي أن
يصدروا أحكاماً أخرى. ولا ينبغي توهم أنّ المراد من ذلك أنّ هؤلاء الفقهاء يقعون
تحت تأثير المحيط والظرف الاجتماعي والثقافي وتتلّون فتواهم بلون المحيط هذا، بل
المقصود أنّهم أدركوا حاجات جديدة ومسائل مستحدثة جعلتهم يتحرّكون في فهم النصوص
والأدلة من موقع التعمّق والتدبّر أكثر، وبالتالي استخراج فتاوى جديدة من عمق هذه
الأدلّة.
والجدير بالذكر أنّ هذا النوع من الاختلاف في الفتاوى موجود أيضاً بين فتاوى
أئمّة المذاهب الأربعة حيث أنّ هذا الاختلاف ناشىء أحياناً من تأثير الزمان
والمكان في عملية الاستنباط، وأحياناً أخرى ناشىء من الاختلاف في المباني.
وأحياناً يقوم إمام مذهب معيّن بتغيير فتواه أيضاً، وأحياناً يبرز اختلاف بين
فقهاء المذهب الواحد أيضاً، مثلًا نرى أنّ نمط تفكير أبيحنيفة عقلانيّ إلى حدّ
الإفراط؛ أي أنّه يتحرّك في الفقه بالاعتماد بشكل كبير على الاستدلال، بحيث أنّه
قلّما يعتمد في فتواه على الأخبار والأحاديث، ولذلك فإنّ مسلك أبيحنيفة يعتمد على
القياس ومركزه العراق والكوفة.
بينما نرى أنّ معاصره مالك بن أنس ومركزه المدينة. كان يعتمد على الحديث بشكل
أكبر، وفي صورة عدم وجود الحديث يعمل بسيرة الصحابة، وإلّا فإنّه يأخذ بسيرة
التابعين، وكان الشافعي متوسّطاً بينهما، فإنّه تلميذ أبيحنيفة، والظاهر أنّه كان
تلميذ أبي يوسف. وقد درس عنده فقه أبي حنيفة في العراق مدّة معيّنة، ثمّ درس عند
مالك، ثمّ توجه إلى مصر، وأخذ أهالي مصر بفتاواه وعملوا بها، ومنذ ذلك الزمان
يعتنق أهالي مصر المذهب الشافعي.
وقد كان أحمد بن حنبل معاصراً للإمام الهادي عليه السلام.
وكان فقهه جامداً إلى حدّ كبير، بل إنّه أساساً لا يعتقد بالعقل ولا يرى له
شأناً في الأحكام [2].