وثانياً : انطلاق السير الفكري للذهن البشري بصورة معاكسة لما يعتقده المذهب العقلي ، فبينما كان المذهب العقلي يؤمن بأنّ الفكر يسير ـ دائماً ـ من العامّ إلى الخاصّ ، يقرّر التجريبيون أنّه يسير من الخاصّ إلى العامّ ، ومن حدود التجربة الضيّقة إلى القوانين والقواعد الكلّية ، ويترقّى ـ دائماً ـ من الحقيقة الجزئية التجريبية إلى المطلق ، وليس ما يملكه الإنسان من قوانين عامّة وقواعد كلّية إلاّ حصيلة التجارب ، ونتيجة هذا ، الارتقاء من استقراء الجزئيات إلى الكشف عن حقائق موضوعية عامّة .
ولأجل ذلك يعتمد المذهب التجريبي على الطريقة الاستقرائية في الاستدلال والتفكير ؛ لأنّها طريقة الصعود من الجزئي إلى الكلّي ، ويرفض مبدأ الاستدلال القياسي الذي يسير فيه الفكر من العامّ إلى الخاصّ ، كما في الشكل الآتي من القياس : (كلّ إنسان فانٍ ومحمّد إنسان) فـ (محمّد فانٍ) . ويستند هذا الرفض إلى أنّ هذا الشكل من الاستدلال لا يؤدّي إلى معرفة جديدة في النتيجة ، مع أنّ حدّ شروط الاستدلال هو : أن يؤدّي إلى نتيجة جديدة ليست محتواة في المقدّمات ، وإذن فالقياس بصورته المذكورة يقع في مغالطة (المصادرة على المطلوب) ؛ لأنّنا إذا ما قبلنا المقدّمة (كلّ إنسان فانٍ) فإنّا ندخل في الموضوع (إنسان) كلّ أفراد الناس ، وبعدئذٍ إذا ما عقّبنا عليها بمقدّمة ثانية (بأنّ محمّداً إنسان) فإمّا أن نكون على وعي بأنّ محمّداً كان فرداً من أفراد الناس الذين قصدنا إليهم في المقدّمة الأولى ، وبذلك نكون على وعي كذلك بأنّه (فانٍ) قبل أن ننصّ على هذه الحقيقة في المقدّمة الثانية ، وإمّا أن لا نكون على وعي بذلك ، فنكون في المقدمة الأولى قد عمّمنا بغير حقّ ؛ لأنّا لم نكن نعلم الفناء عن كلّ أفراد الناس كما زعمنا .