فاتّفق أن طلب منه أهل قمّ الإقامة في بلدهم، و أجابهم إلى ذلك و توطّن فيها و درّس فيها و ألّف كثيرا من كتبه ليتحسس هذه المرّة الام الأمّة و ما يصيبها من جراء تسلّط الحكّام الظالمين.
المشخّصة الثانية: و هي جدّه و جهده في طلب العلم و التفكر و التعمّق في المسائل الأصولية و الفقهية و غيرها، فقد قيل: إنه كان يطالع و يدرّس مضربا عن الدنيا حتى النوم لأنّه كان ينام على السراج بعد أن يضع عليه إناء فيكتحل من النوم بمقدار ما يسخن الإناء من حرارة و حج السراج، و عندها لا يطيق وضع يده عليه فيستيقظ و يستمرّ بالمطالعة و الكتابة.
حتى إذا أتمّ كتاب القوانين المحكمة أصيب من جراء شدّة تعمّقه و تفكّره بثقل السمع، و لما جيء بالكتاب إلى السيد مهدي بحر العلوم في النجف الأشرف و رآه و أحاط خبرا ببعض مطاويه و لم يعلم من هو مصنّفه قال لمن جاء به: يا هذا لاحظت هذا الكتاب و لم أدر ممّن هو إلّا أنّ صاحبه قد أصيب ببعض مشاعره لا محالة، أم لا بد له من آفة تنزل على سمعه أو بصره. فقيل له: بلى إنّه من تأليفات مولانا الميرزا القمّي و قد أصيب بعد فراغه منه بثقل السامعة كما بيّنّا، فتعجّب الحاضرون من فراسة السيد.
و لعلّ و عورة العلم و كثرة التوغّل فيه هو سبب آخر لتأوه الميرزا و تألّمه، فإنّ من المجرّب أنّ كثرة التوغّل في ذلك يجعل صاحبه يتسأم من كلّ ما يعيقه عن طلبه و يحده من المبالغة فيه، بل يتنفّر حتى من الأمور المعاشية العائقة عن ذلك.
المشخّصة الثالثة: و هي إعراضه عن الدنيا بعد إقبالها عليه و شدّة اعتقاده.
لأنّه لمّا دخل بلدة قمّ بعد طلب من أهلها و استقر فيها، و أخذ بالتدريس و التأليف حتى أصبح من كبار المحقّقين، توجّهت إليه الناس و اشتهر أمره، و طار ذكره في البلدان، و رجع إليه بالتقليد، و استقلّ بالزعامة الدينية، أيّام السلطان فتح على شاه القاجار الذي أخذ يعظّم الميرزا أشدّ تعظيم، و يجلّه أكبر إجلال، كما كان يكثر من زيارته و الكلام معه.
غير أنّ الميرزا لم يكن ليرى في هذه العلاقة سوى أنّها فرصة لنصح السلطان و وعظه من دون أدنى ملاحظة أو مساومة، فكان يأخذ لحية السلطان بيده و هي طويلة تجوز محزمه و يقول له: احذر أن تعمل ما يؤدّي إلى أن تحرق لحيتك هذه يوم القيامة، و إذا دخل معه الحمام و سلخا عنهما ثيابهما قال له: هكذا تحشر يوم القيامة فانظر ما ذا ستصحب معك عن الأعمال.
و يبقى عند ذلك على أشد الحذر من الاقتراب من السلطان و من أعوانه أكثر فأكثر، بل يحاول