و فی وجوده و حرکته و سکونه حکم و مصالح لا تحصی. و
کل ذلک مجاری التفکر و التدبر لتحصیل المعرفة و البصیرة بخالقها الحکیم و
موجدها القیوم العلیم، إذ کلها شواهد عدل و بینات صدق علی وحدانیته و حکمته
و کمال کبریائه و عظمته، فمن قدم قدم حقیقته، و دار عالم الوجود و فتح عین
بصیرته، و شاهد مملکة ربه الودود، لظهر له فی کل ذرة من ذرات الخلق عجائب
حکمة و غرائب قدرة، بهر منها عقله و وهمه، و حسر دونها لبه و فهمه. ثم
لا ریب فی أن طبقات العوالم المنتظمة المرتبة علی النحو الأصلح و النهج
الأحسن بأمر موجدها الحکیم و مدبرها العلیم، مبتدأة فی الصدور من الأشرف
فالأشرف، حتی ینتهی إلی أسفل العوالم و أخسها، و هو عالم الأرض بما فیه، و
کل عالم أسفل لا قدر له بالنسبة إلی ما فوقه، فلا قدر للأرض بالنظر إلی
عالم الجو، و لا للجو بالقیاس إلی عالم السماوات، و لا للسماوات بالنسبة
إلی عالم المثال، و لا للمثال بالنظر إلی عالم الملکوت، و لا للملکوت
بالقیاس إلی الجبروت، و لا للجمیع بالنسبة إلی ما لا سبیل لنا إلی درکه
تفصیلا و إجمالا من عوالم الألوهیة، کما ظهر لعلماء الطبیعة و أهل الرصد و
الهندسة، و وضح لأرباب المکاشفة و العرفان و أصحاب المشاهدة و العیان. ثم
أخس العوالم الذی عرفت حاله- أعنی الأرض- لا قدر لما علی ظهرها من الحیوان
و النبات و الجماد، بالنظر إلی نفسها، و لذا یفسد من أدنی تغیر لها جل ما
علیها، و لکل جنس مما علیها أنواع و أقسام و أصناف غیر متناهیة. و أضعف
أنواع الحیوان البعوضة و النحل و أشرف أنواعه الإنسان فنحن نشیر إلی نبذة
یسیرة من الحکم و العجائب المودعة فیها، و کیفیة التفکر فیها، لیقاس علیها
البواقی إجمالا. فإن بیان مجاری التفکر