لمّا
خرج لمحاربة بابك [1]، ثم تنكّر له؛ فوجّه يوما بمن جاء به ليقتله. و بلغ المعتصم الخبر،
فبعث إليه بأحمد/ بن أبي دواد و قال له: أدركه، و ما أراك تلحقه، فاحتل في خلاصه
منه كيف شئت. قال ابن أبي دواد: فمضيت ركضا حتى وافيته، فإذا أبو دلف واقف بين
يديه و قد أخذ بيديه غلامان له تركيّان، فرميت بنفسي على البساط، و كنت إذا جئته
دعا لي بمصلّى، فقال لي: سبحان اللّه! ما حملك على هذا؟ قلت: أنت أجلستني هذا
المجلس. ثم كلّمته في القاسم و سألته فيه و خضعت له، فجعل لا يزداد إلّا غلظة.
فلما رأيت ذلك قلت: هذا عبد و قد أغرقت في الرّفق به فلم ينفع، و ليس إلا أخذه
بالرّهبة و الصّدق؛ فقمت/ فقلت: كم تراك قدرت! تقتل أولياء أمير المؤمنين واحدا
بعد واحد، و تخالف أمره في قائد بعد قائد! قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير
المؤمنين، فهات الجواب!. قال:
فذلّ حتى لصق
بالأرض و بان لي الاضطراب فيه. فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي دلف و أخذت بيده، و قلت
له: قد أخذته بأمر أمير المؤمنين. فقال: لا تفعل يا أبا عبد اللّه. فقلت: قد فعلت
و أخرجت القاسم فحملته على دابّة و وافيت المعتصم. فلما بصر بي قال: بك يا أبا عبد
اللّه وريت زنادي، ثم ردّ عليّ خبري مع الأفشين حدسا بظنّه ما أخطأ فيه حرفا؛ ثم
سألني عما ذكره لي و هو كما قال، فأخبرته أنه لم يخطئ حرفا.
أنكر عليه
أحمد بن أبي دواد الغناء مع جلالة قدره و كبر سنه
: و قال عليّ
بن محمد حدّثني جدّي قال:
كان أحمد بن
أبي دواد ينكر أمر الغناء إنكارا شديدا. فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دلف يغنّي؛
فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك. فستر أحمد بن أبي دواد في موضع و أحضر أبا دلف و
أمره أن يغنّي، ففعل ذلك و أطال؛ ثم أخرج أحمد بن أبي دواد عليه من موضعه و
الكراهة ظاهرة في وجهه. فلما رآه أحمد قال له: سوأة لهذا من فعل [2]! بعد هذه
السّنّ و هذا المحلّ تضع نفسك كما أرى! فحجل أبو دلف و تشوّر [3]، و قال: إنهم
أكرهوني على ذلك. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أ فأكرهوك على الإحسان و الإصابة!.
سمع المعتصم
غناءه عند الواثق فمدحه
: قال عليّ و
حدّثني جدّي: أنّ سبب منادمته للمعتصم أنه كان نديما للواثق، و كان أبو دلف قد وصف
للمعتصم فأحب أن يسمعه، و سأل الواثق عنه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا على الفصد
غدا و هم عندي. فقال له المعتصم:
أحبّ ألّا تخفي
عليّ/ شيئا من خبركم. و فصد الواثق، فأتاه أبو دلف و أتته رسل الخليفة بالهدايا، و
أعلمهم الواثق حضور أبي دلف عنده؛ فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون: قد جاء الخليفة.
فقام الواثق و كلّ من عنده حتى تلقّوه حين برز من الدّهليز إلى الصّحن؛ فجاء حتى
جلس، و أمر بندماء الواثق فردّوا إلى مجالسهم. قال حمدون [4]:
و خنست عن
مجلسي الذي كنت فيه لحداثتي؛ فنظر المعتصم إلى مكاني خاليا، فسأل عن صاحبه فسمّيت
له، فأمر بإحضاري فرجعت إلى مكاني، و أمر بأن يؤتى برطل من شرابه فأتي به؛ فأقبل
على أبي دلف فقال له: يا قاسم، غنّ
[1]
هو بابك الخرّمي الطاغية الذي كاد أن يستولي على الممالك زمن المعتصم، كان يرى رأي
المزدكية من المجوس الذين خرجوا أيام قباذ و أباحوا النساء و المحرّمات، و قتلهم
أنوشروان. (عن شرح القاموس مادة خرم).
[2] كذا في
«ج». و في «سائر الأصول»: «سوأة لمن فعل هذا ...».