أنت بمنته حتى تلحقك بأبيك؛ فأمسك عنه و دخل إلى أمه كئيبا، فسألته
عما به فأخبرها الخبر؛ فلما أوى إلى فراشه و نام إلى جنب امرأته وضع أنفه بين
ثدييها، فتنفّس تنفّسة تنفّط [1] ما بين ثدييها من حرارتها؛ فقامت الجارية فزعة قد
أقلّتها رعدة حتى دخلت على أبيها، فقصّت عليه قصّة الهجرس؛ فقال جسّاس: ثائر و ربّ
الكعبة! و بات جسّاس على مثل الرّضف [2] حتى أصبح؛ فأرسل إلى الهجرس فأتاه، فقال
له: إنما أنت ولدي و منّي بالمكان الذي قد علمت، و قد/ زوّجتك ابنتي و أنت معي، و
قد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى، و قد اصطلحنا و تحاجزنا، و قد
رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح، و أن تنطلق حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ
علينا و على قومنا؛ فقال الهجرس: أنا فاعل، و لكنّ مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته
[3] و فرسه؛ فحمله جسّاس على فرس و أعطاه لأمة و درعا؛ فخرجا حتى أتيا جماعة من
قومهما، فقصّ عليهم جسّاس/ ما كانوا فيه من البلاء و ما صاروا إليه من العافية، ثم
قال: و هذا الفتى ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه و يعقد ما عقدتم؛ فلما
قرّبوا [4] الدم و قاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه، ثم قال: و فرسي و أذنيه،
و رمحي و نصليه، و سيفي و غراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه و هو ينظر إليه؛ ثم طعن
جسّاسا فقتله، ثم لحق بقومه؛ فكان آخر قتيل في بكر بن وائل.
ترحيل أخت
كليب لجليلة عن مأتم زوجها و شعر جليلة في ذلك:
قال أبو الفرج:
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن العبّاس بن هشام عن أبيه عن
الشّرقيّ [5] بن القطاميّ قال:
لمّا قتل جسّاس
بن مرّة كليب بن ربيعة، و كانت جليلة بنت مرّة أخت جساس تحت كليب، اجتمع نساء
الحيّ للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحّلي جليلة عن مأتمك، فإنّ قيامها فيه شماتة و عار
علينا عند العرب؛ فقالت لها:
يا هذه اخرجي
عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا و شقيقة قاتلنا؛ فخرجت و هي تجرّ أعطافها؛ فلقيها
أبوها مرّة، فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، و حزن الأبد؛ و فقد
حليل، و قتل أخ عن قليل؛ و بين ذين غرس الأحقاد، و تفتّت الأكباد؛ فقال لها: أو
يكفّ ذلك كرم الصّفح و إغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع و ربّ الكعبة!
أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربّها!. قال: و لمّا رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة
المعتدي و فراق الشامت، ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرة!. فبلغ قولها
جليلة، فقالت: و كيف تشمت الحرّة بهتك سترها/ و ترقّب وترها! أسعد اللّه جدّ أختي،
أ فلا قالت: نفرة الحياء، و خوف الاعتداء!. ثم أنشأت [6] تقول:
[2] الرضف
(بالفتح، واحده رضفة): الحجارة المحماة يوغر (يسخن) بها اللبن، و يقال: هو على
الرضف إذا كان قلقا مشخوصا به أو مغتاظا.
[3] لأمته:
سلاحه. و تطلق اللامة على كل عدّة للحرب من درع و رمح و بيضة و مغفر و سيف و نبل.
[4] كان من
عادة العرب أن يحضروا في جفنة طيبا أو دما أو رمادا فيدخلوا فيه أيديهم عند
التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد.
[5] في بعض
الأصول: «الشرفي» بالفاء، و هو تصحيف، و قد ضبطه السمعاني بفتح الشين و سكون الراء
و القطامي بضم القاف و فتح الطاء و كسر الميم. و ضبط كذلك بالعبارة في «تهذيب
التهذيب» و الخلاصة بفتح الشين و الراء و قطامي بضم القاف و فتح الميم.
[6] قال أبو
عبيد اللّه محمد بن عمران المرزباني في الجزء الثالث من «أشعار النساء» بعد أن ذكر
هذه الأبيات و نسبها لجليلة كما ذكر المؤلف هنا: «و وجدت بخط حرميّ بن أبي العلاء
قال محمد بن خلف بن المرزبان: هذه الأبيات لفاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن مرّة أخت
كليب و مهلهل ابني ربيعة التغلبيين ترثي أخاها كليبا و قتله زوجها جساس» اه.