قال: فقلت له:
ما سمعت أحسن من هذا الشعر قطّ؛ فقال لي: فاصنع فيه؛ فصنعت فيه لحنا؛ و أحضرني و
صيفة له، فألقيته عليها حتى أخذته؛ و قال: إنما أردت أن أتسلّى به في طريقي و
تذكّرني به الجارية أمرك إذا غنّته.
فكان كلما ذكر
أتاني برّه، إلى أن قدم، عدّة دفعات. لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر، و الذي
وجدت فيه لعبد اللّه بن طاهر خفيف رمل، ذكره ابنه عبيد اللّه عنه. و لمخارق لحن من
الرمل. و لعمرو بن بانة هزج بالوسطى.
و لمخارق و
الطاهريّة خفيف ثقيل.
سأل عنه
المتوكل حين كف فأحضره ثم غناه فوصله:
حدّثني جحظة
قال حدّثني أبو عبد اللّه محمد بن/ حمدون قال:
سأل المتوكّل
عن إسحاق الموصليّ، فعرف أنه قد كفّ و أنه في منزله ببغداد؛ فكتب في إحضاره. فلما
دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدّام السرير، و أعطاه مخدّة، و قال له: بلغني أن المعتصم
دفع إليك مخدّة في أوّل يوم جلست بين يديه و هو خليفة، و قال: إنه لا يستجلب ما
عند حرّ بمثل الكرامة؛ ثم سأله: هل أكل؟ فقال نعم؛ فأمر أن يسقى؛ فلما شرب أقداحا
قال: هاتوا لأبي محمد عودا فجيء به؛ فاندفع يغنّي بصوت الشعر فيه و الغناء له:
- قال أبو عبد اللّه: فو اللّه ما بقي غلام من
الغلمان الوقوف على الحير [3] إلا وجدته يرقص طربا و هو لا يعلم بما يفعل- فأمر له
بمائة ألف درهم. ثم قال لي المتوكل: يا ابن حمدون، أ تحسن أن تغنّيني هذا الصوت؟
فقلت نعم؛ قال: غنّه؛ فترنّمت به؛ فقال إسحاق: من هذا الذي يحكيني؟ فقال: هذا ابن
صديقك حمدون؛ فقال: وددت أنه يحسن أن يحكيني؛ فقلت له: أنت عرّضتني له يا أمير
المؤمنين. ثم انحدر المتوكل إلى رقّة [4] بوصرا؛ و كان يستطيبها لكثرة تغريد
الأطيار بها، فغنّى إسحاق:
صوت
أ أن هتفت ورقاء في رونق الضّحى
على غصن غضّ الشباب من الرّند
بكيت كما يبكي الحزين صبابة
و شوقا و تابعت الحنين إلى نجد
فضحك المتوكل و
قال له: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لمّا غنّيته بالصالحيّة [5]:
[2] يقال:
عيناه تدمعان بأربعة، أي تسيلان بأربعة آماق، و ذلك أشدّ البكاء.
[3] كذا في
ح. و الحير: اسم قصر بسر من رأى بناه المتوكل و أنفق على عمارته أربعة آلاف ألف
درهم. (راجع ياقوت في الكلام على الحير). و في سائر الأصول: «الخبر» بالخاء
المعجمة و الباء الموحدة، و هو تصحيف.
[4] الرقة:
كل أرض إلى جنب واد ينبسط عليها الماء. و بوصرا: قرية من قرى بغداد.
[5]
الصالحية: قرية قرب الرها من أرض الجزيرة، احتلها عبد الملك بن صالح الهاشمي.