منّي فلا تغنّ فلست فيه كما أرضى؛ فصاح أبي عليّ صيحة شديدة ثم قال
لي: و ما يدريك يا صبيّ! ثم أقبل على الرجل فقال: أنت يا حبيبي بضدّ ما قال، و إن
لزمت الصّناعة برعت فيها؛ فلما خلا بي قال لي: يا أحمق! ما عليك أن يخزي اللّه
مائة ألف مثل هذا! هؤلاء أغنياء ملوك، و هم يعيّروننا بالغناء، فدعهم يتهتكوا به و
يعيّروا و يفتضحوا و يحتاجوا إلينا فننتفع بهم، و يبين فضلنا لدى الناس بأمثالهم.
قال: و لزمه النّهيكيّ يأخذ عنه و يبرّه فيجزل، فكان إذا غنّى فأحسن قال له: بارك
اللّه فيك، و إذا أساء قال: بارك اللّه عليك؛ و كثر ذلك منه حتّى عرف النّهيكيّ
معناه فيه، فغنّى يوما و أبي ساه عنه فسكت و لم يقل له شيئا؛ فقال له: جعلت فداك،
يا أستاذي، أ هذا الصوت من أصوات «فيك»/ أم «عليك»؟ فضحك أبي و لم يكن علم [1] أنه
قد فطن لقوله، ثم قال له: و اللّه لأقبلنّ عليك حتّى تصير كما تشتهي، فإنك ظريف
أديب؛ و غني به حتى حسن غناؤه و تقدّم. و فيه يقول أبي:
أوجب اللّه لك الح
قّ على مثلي بظرفك
لن تراني بعد هذا
ناطقا إلّا بوصفك
و ترى القوّة فيما
تشتهيه بعد ضعفك
احتكم إليه
مخارق و إسحاق فحكم لإسحاق:
أخبرني إسماعيل
قال حدّثني عمر بن شبّة عن إسحاق، أخبرني به الصّوليّ عن عون بن محمد عن إسحاق
قال:
غنّى مخارق بين
يدي الرشيد صوتا فأخطأ في قسمته؛ فقلت له: أعد فأعاده، و كان الخطأ خفيّا، فقلت
للرّشيد: يا سيّدي، قد أخطأ فيه؛ فقال لإبراهيم بن المهديّ: ما تقول فيما ذكره
إسحاق؟ قال: ليس الأمر كما قال، و لا هاهنا خطأ؛ فقلت له: أ ترضى بأبي؟ قال: إي و
اللّه، و كان أبي في بقايا علّة؛ فأمر الرشيد بإحضاره و لو محمولا، فجيء به في
محفّة؛ فقال لمخارق: أعد الصوت، فأعاده: فقال: ما عندك يا إبراهيم في هذا الصوت؟
فقال: قد أخطأ
فيه؛ فقال له: هكذا قال ابنك إسحاق، و ذكر أخي إبراهيم أنه صحيح؛ فنظر إليّ ثم
قال: هاتوا دواة، فأتي بها و كتب شيئا لم يقف عليه أحد ثم قطعه و وضعه بين يدي
الرشيد، و قال لي: اكتب بذكر الموضع الفاسد من قسمة هذا الصوت، فكتبته و ألقيته
فقرأه و سرّ، و قام فألقاه بين يدي الرشيد، فإذا الذي قلناه جميعا متفق؛ فضحك و
عجب، و لم يبق/ أحد في المجلس إلا قرّظ و أثنى و وصف، و لا أحد خالف إلّا خجل و
ذلّ و أذعن.
و قال أبي في
ذلك:
ليت من لا يحسن العل
م كفانا شرّ علمه
فاخبر الحقّ ابتداء
و قس العلم بفهمه
طيّب الرّيحان لا تع
رفه إلا بشمّه
حديث بين
ابنه إسحاق و الرشيد في المال الذي أخذه هو من الرشيد:
حدّثني جحظة
قال حدّثني هبة اللّه، و حدّثني محمد بن مزيد قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه
قال:
غنّى أبي يوما
بحضرة الرشيد:
[1]
كذا في ح. و في أ، م: «و لم يكن علم اللّه أنه ... إلخ». و في سائر الأصول: «و لم
يكن علم أبي أنه ... إلخ».