ضياعه، و سوى الصّلات النّزرة التي لم يحفظها؛ و لا و اللّه ما رأيت
أكمل مروءة منه، كان له طعام/ معدّ في كل وقت؛ فقلت لأبي: أ كان يمكنه ذلك؟ فقال:
كان له في كل يوم ثلاث شياه: واحدة مقطّعة في القدور، و أخرى مسلوخة و معلّقة، و
أخرى حيّة، فإذا أتاه قوم طعموا ما في القدور، فإذا فرغت قطّعت الشاة المعلّقة و
نصبت القدور و ذبحت الحيّة فعلّقت و أتي بأخرى فجعلت و هي حيّة في المطبخ؛ و كانت
وظيفته لطعامه و طيبه و ما يتّخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري و
سوى كسوته؛ و لقد اتفق عندنا مرّة من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية، ما
منهنّ واحدة إلا و يجري عليها من الطعام و الكسوة و الطّيب مثل ما يجري لأخصّ
جواريه، فإذا ردّت الواحدة منهنّ إلى مولاها وصلها و كساها، و مات و ما في ملكه
إلا ثلاثة آلاف دينار، و عليه من الدّين سبعمائة دينار قضيت منها.
اشترى منه
الرشيد جارية و سأله الحطيطة من ثمنها فكان منه ما دل على سمو نفسه:
أخبرني محمد بن
خلف وكيع و يحيى بن عليّ بن يحيى و ابن/ المرزبان قالوا أخبرنا حمّاد بن إسحاق
قال:
كان أبي يحدّث
أن الرشيد اشترى من جدّي جارية بستة و ثلاثين ألف دينار، فأقامت عنده ليلة، ثم
أرسل إلى الفضل بن الربيع: إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم، و نحن نحسب أنها
من بابتنا [1] و ليست كما ظننتها، و ما قربتها، و قد ثقل عليّ الثمن و بينك و بينه
ما بينكما، فاذهب إليه فسله أن يحطّنا من ثمنها ستة آلاف دينار؛ قال:
فصار الفضل
إليه فاستأذن [عليه] [2] فخرج جدّي فتلقّاه؛ فقال: دعني من هذه الكرامة التي لا
مئونة بيننا فيها، لست ممّن يخدع، و قد جئتك في أمر أصدقك عنه، ثم أخبره الخبر
كلّه؛ فقال له إبراهيم: إنه أراد أن يبلو قدرك عندي؛ قال: ذاك/ أراد! قال: فمالي
كلّه صدقة في المساكين إن لم أضعّفه لك، قد حططتك [3] اثني عشر ألف دينار؛ فرجع
الفضل إليه بالخبر؛ فقال: ويلك! ادفع إلى هذا ماله، فما رأيت سوقة قطّ أنبل نفسا
منه. قال أبي: و كنت قد أتيت جدّك فقلت: ما كان لحطيطة هذا المال معنى و ما هو
بقليل، فتغافل عنّي و قال: أنت أحمق، أنا أعرف الناس به، و اللّه لو أخذت المال
منه كملا [4] ما أخذته إلا و هو كاره، و يحقد ذلك عليّ و كنت أكون عنده صغير
القدر، و قد مننت عليه و على الفضل، و انبسطت نفسه و نشط و عظم قدري عنده، و إنما
اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم، و قد أخذت بها أربعة و عشرين ألف دينار، فلما
حمل المال إليه بلا حطيطة دعاني فقال لي: كيف رأيت يا إسحاق! من البصير أنا أم
أنت؟ فقلت: بل أنت جعلني اللّه فداءك.
حوار الفضل
بن يحيى له و قد رآه خارجا من عند الفضل بن الربيع:
حدّثني وكيع
قال حدّثنا حمّاد قال حدّثني أبي قال:
[1]
البابة: الوجه و الطريق، و يقال: هذا شيء من بابتك، أي يصلح لك (راجع الحاشية رقم
9 ص 179 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب طبع دار الكتب المصرية).
[3] كذا في
ط، ء. و في م: «حططته». و في سائر الأصول: «حططت».
[4] كملا
(بفتحتين) أي كاملا وافيا. قال الليث: هكذا يتكلم به في الجمع و الوحدان سواء لا
يثني و لا يجمع و ليس بمصدر و لا نعت و إنما هو كقولك: أعطيته المال كله. (انظر
«المصباح المنير» و «اللسان» مادة كمل).