لم يظهرها و ينسبها لنفسه،
فأسترها عليه، فإذا كان هذا قول إسحاق في أبيه فمن يعتذر بعده من أن يكون له جيّد
و رديء، و ما عري أحد في صناعة من الصناعة من حال ينقصه عن الغاية، لأن الكمال
شيء تفرّد اللّه العظيم به، و النقصان جبلّة طبع بني آدم [1] عليها، و ليس ذلك
إذا وجد في بعض أغاني عريب مما يدعو إلى إسقاط سائرها، و يلزمه اسم الضّعف و
اللّين، و حسب المحتجّ لها شهادة إسحاق بتفضيلها، و قلّما شهد/ لأحد، أو سلم خلق-
و إن تقدّم و أجمع على فضله- من شينه [2] إيّاه و طعنه عليه، لنفاسته في هذه
الصناعة، و استصغاره أهلها، فقد تقدّم في أخباره مع علّوية، و مخارق، و عمرو بن
بانة، و سليم بن سلام، و حسين بن محرز، و من قبلهم/ و من فوقهم مثل ابن جامع و
إبراهيم بن المهديّ و تهجينه إياهم، و موافقته لهم على خطئهم فيما غنّوه و صنعوه
مما يستغنى به عن الإعادة في هذا الموضع، فإذا انضاف فعله هذا بهم، و تفضيله
إياها، كان ذلك أدلّ على التحامل ممّن طعن عليها، و إبطاله فيما ذكرها به، و لقائل
ذلك- و هو أبو عبد اللّه الهشامي- سبب كان يصطنعه عليها، فدعاه إلى ما قال، نذكره
بعد هذا إن شاء اللّه تعالى.
و مما يدلّ على إبطاله أنّ
المأمون أراد أن يمتحن إسحاق في المعرفة بالغناء القديم و الحديث، فامتحنه بصوت من
غنائها من صنعتها، فكاد يجوز عليه، لو لا أنه أطال الفكر و التلوّم و استثبت، مع
علمه بالمذاهب في الصنعة، و تقدّمه في معرفة النّغم و عللها، و الإيقاعات و
مجاريها.
و أخبرنا بذلك يحيى بن
عليّ بن يحيى: قال: حدثني أبي عن إسحاق:
فأمّا السبب الذي كان من
أجله يعاديها الهشامي، فأخبرني به يحيى بن محمد بن عبد اللّه بن طاهر قال: ذكر
لأبي أحمد عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر عميّ أنّ الهشاميّ زعم أن أحسن صوت
صنعته عريب:
صاح قد لمت ظالما
و إن غناءها بمنزلة قول
أبي دلف في خالد:
يا عين بكّي خالدا
ألفا و يدعى واحدا
فقال: ليس الأمر كما ذكر،
و لعريب صنعة فاضلة متقدّمة، و إنما قال هذا فيها/ ظلما و حسدا، و غمطها ما تستحقّه
من التّفضيل، بخبر لها معه طريف، فسألناه عنه، فقال: أخرجت الهشاميّ معي إلى سرّ
من رأى، بعد وفاة أخي، يعني أبا محمد بن عبد اللّه بن طاهر، فأدخلته على المعتزّ،
و هو يشرب، و عريب تغنّي، فقال له: يا بن هشام، غنّ، فقال: تبت من الغناء قتل
سيّدي المتوكل، فقالت له عريب: قد و اللّه أحسنت حيث تبت، فإن غناءك كان قليل
المعنى، لا متقن [3] و لا صحيح و لا مطرب، فأضحكت أهل المجلس جميعا منه، فخجل؛
فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها، و يعيب صنعتها، و يقول: هي ألف صوت في العدد، و صوت
واحد في المعنى.
و ليس الأمر كما قاله، إن لها
لصنعة تشبّهت فيها بصنعة الأوائل، و جوّدت، و برزت فيها، منها:
أ إن سكنت نفسي و قلّ
عويلها
و منها:
[1]
كذا في ب على أن فاعل طبع ضمير ذى
الجلال، و في ف، مم «طبع بالبناء للمجهول».