رأيت طارقا ببابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل
الكوفة قد قدم من قمّ، فسررت به، و كأنّ إنسانا لطم وجهي، لأنّه لم يكن عندي درهم
واحد أنفقه عليه، فقمت فسلّمت عليه، و أدخلته منزلي، و أخذت خفّين كانا لي أتجمّل
بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، و كتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السّوق، أسأله أن
يبيع الخفّين و يشتري لي لحما و خبزا بشيء سمّيته. فمضت الجارية و عادت إليّ و قد
اشترى لها ما قد حدّدته له، و قد باع الخفّين [1] بتسعة دراهم، فكأنّها إنما جاءت
بخفّين جديدين. فقعدت أنا و ضيفي نطبخ، و سألت جارا لي أن يسقينا قارورة نبيذ،
فوجّه بها إليّ، و أمرت الجارية بأن تغلق باب الدّار مخافة طارق يجيء فيشركنا
فيما نحن فيه، ليبقى لي و له ما نأكله إلى أن ينصرف.
يصل إليه رسول يزيد بن
مزيد و يدفع إليه عشرة آلاف درهم
فإنّا لجالسان نطبخ حتى
طرق الباب طارق، فقلت لجاريتي: انظري من هذا. فنظرت من شقّ الباب فإذا رجل عليه
سواد و شاشيّة و منطقة و معه شاكريّ، فخبّرتني بموضعه فأنكرت أمره [2]، ثم رجعت
إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة، و لا للسّلطان عليّ سبيل. ففتحت الباب و خرجت
إليه، فنزل عن دابّته و قال: أ أنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم. فقال: كيف لي
بمعرفتك؟ قلت: الّذي دلّك على منزلي يصحّح لك معرفتي. فقال لغلامه:
امض إلى الخيّاط فسله عنه.
فمضى فسأله عنّي فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج إليّ كتابا من خفّه، و قال:
هذا كتاب الأمير يزيد بن
مزيد إليّ، يأمرني ألّا أفضّه إلا عند لقائك، فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد
فادفع إليه/ هذه العشرة آلاف درهم، الّتي أنفذتها تكون له في منزله، و ادفع ثلاثة
آلاف درهم نفقة ليتحمّل بها إلينا. فأخذت الثّلاثة و العشرة، و دخلت إلى منزلي و
الرّجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، و ازددت فيه و في الشّراب، و اشتريت فاكهة، و اتّسعت
و وهبت لضيفي من الدّراهم ما يهدي به هديّة لعياله.
يذهب إلى يزيد و ينشده
قصيدة في مدحه
و أخذت في الجهاز، ثم ما
زلت معه حتى صرنا إلى الرّقّة إلى باب يزيد، فدخل الرّجل و إذا هو أحد حجّابه،
فوجده في الحمّام، فخرج إليّ فجلس معي قليلا، ثم خبّر الحاجب بأنّه قد خرج من
الحمّام، فأدخلني إليه، و إذا هو على كرسيّ جالس، و على رأسه و صيفة بيدها غلاف
مرآة، و بيده هو مرآة، و مشط يسرّح لحيته، فقال لي:
يا مسلم، ما الّذي بطّأ بك
عنّا؟ فقلت: أيّها الأمير، قلّة ذات اليد. قال: فأنشدني. فأنشدته قصيدتي الّتي
مدحته فيها:
[2]
في ما «أمري». و الشاشية: العمامة. و المنطقة: الحزام ينتطق به. و
الشاكري: الأجير.
[3]
في الأغاني 5/ 44، و ابن خلكان 2/
284 «كفيه و مفرقه». و جاء في
شرح الديوان- 13 «لا يعبق الطيب خديه و مفرقه أي لا يلصق بهما. و لا
يمسح عينيه من الكحل أي لا يتكحل ... يطعن بذلك على بني عمه الذين كانوا أقبلوا
إلى أبيهم ليلا متعطرين، و أقبل هو إليه في السلاح».