يفي
بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه و لا تسفك دمي. قال: هاته فأخرجته إليه؛
فنظر إليه ساعة و قال:
صدقت في قيمته،
و لست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك. فقلت: قل. قال: إن الناس قد و
صفوك بالجود، فأخبرني هل وهبت قطّ مالك كلّه؟ قلت لا. قال: فنصفه؟ قلت لا. قال:
فثلثه؟ قلت لا.
حتى بلغ العشر
فاستحييت فقلت: أظنّ أنّي قد فعلت هذا. فقال: ما أراك فعلته! أنا و اللّه راجل، و
رزقي من أبي جعفر عشرون درهما، و هذا الجوهر قيمته آلاف دنانير، و قد وهبته لك، و
وهبتك لنفسك و لجودك المأثور عنك بين الناس، و لتعلم أن في الدنيا أجود منك، فلا
تعجبك نفسك و لتحقر بعد هذا كلّ شيء تفعله، و لا تتوقّف عن مكرمة. ثم رمى بالعقد
في حجري و خلّى خطام البعير و انصرف. فقلت: يا هذا قد و اللّه فضحتني، و لسفك دمي
أهون عليّ ممّا فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإنّي غنيّ عنه. فضحك ثم قال: أردت أن
تكذّبني في مقامي هذا، و اللّه لا آخذه و لا آخذ بمعروف ثمنا أبدا، و مضى. فو
اللّه لقد طلبته بعد أن أمنت و بذلت لمن جاءني به ما شاء فما عرفت له خبرا، و كأن
الأرض ابتلعته.
سبب رضا
المنصور عن معن بن زائدة:
قال: و كان سبب
رضا المنصور عن معن أنه لم يزل مستترا حتى كان يوم الهاشميّة [1]، فلما وثب القوم
على المنصور و كادوا يقتلونه، وثب معن و هو متلثّم فانتضى سيفه و قاتل فأبلى بلاء
حسنا، و ذبّ القوم عنه حتى نجا و هم يحاربونه بعد،/ ثم جاء و المنصور راكب على
بغلة و لجامها بيد الرّبيع؛ فقال له: تنحّ فإنّي أحقّ باللّجام منك في هذا الوقت و
أعظم فيه غناء. فقال له المنصور: صدق فادفعه إليه؛ فأخذه و لم يزل يقاتل حتى
انكشفت تلك الحال. فقال له المنصور: من أنت للّه أبوك؟ قال: أنا طلبتك يا أمير
المؤمنين معن بن زائدة.
قال: قد أمّنك
اللّه على نفسك و مالك، و مثلك يصطنع. ثم أخذه معه و خلع عليه و حباه و زيّنه. ثم
دعا به يوما و قال له: إنّي قد أمّلتك لأمر، فكيف تكون فيه؟ قال: كما يحبّ أمير
المؤمنين- قال: قد ولّيتك اليمن، فابسط السيف فيهم حتى ينقض حلف ربيعة و اليمن-
قال: أبلغ من ذلك ما يحبّ أمير المؤمنين. فولّاه اليمن و توجّه إليها فبسط السيف
فيهم حتى أسرف.
عاتب المنصور
معنا على إكرامه له فأجابه إنما أكرمه لمدحه هو:
قال مروان: و
قدم معن بعقب ذلك فدخل على المنصور فقال له بعد كلام طويل: قد بلغ أمير المؤمنين
عنك شيء لو لا مكانك عنده و رأيه فيك لغضب عليك. قل: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟
فو اللّه ما تعرّضت لك منك، قال: إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله/ فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفا إلى شرف بنو شيبان
إن عدّ أيام الفعال فإنّما
يوماه يوم ندى و يوم طعان
فقال: و اللّه
يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر، و إنما أعطيته لقوله:
ما زلت يوم الهاشميّة معلما
بالسيف دون خليفة الرحمن
[1]
الهاشمية: مدينة بناها السفاح بالكوفة. و ذلك أنه لما ولي الخلافة نزل بقصر ابن
هبيرة و استتم بناءه و جعله مدينة و سماها الهاشمية.
فلما توفي
دفن بها. و استخلف المنصور فنزلها و استتم بناء كان بقي فيها و زاد فيها ما أراد.
و كانت فيها وقعة بين أبي جعفر المنصور و الراوندية، و هم قوم يقولون بتناسخ
الأرواح و يزعمون أن روح آدم حلت في أحد رجالات المنصور، و أن ربهم الذي يطعمهم و
يسقيهم هو أبو جعفر المنصور و أن الهيثم بن معاوية جبريل. (راجع «معجم البلدان»
لياقوت و «تاريخ الطبري» ق 3 ص 129، 131).