لم يسمعا بمثله قطّ. فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم
قطّ؟ قال: لا و اللّه! فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف
بمن في الجوبة [1]!- يعني المدينة- قال: أمّا أنا فثكلته والدته إن لم أرجع. قال:
فكرّا راجعين.
قدوم معبد
مكة و ما وقع بينه و بين الغريض
قال: و قال
معبد: قدمت مكة، فذهب بي بعض القرشيّين إلى الغريض، فدخلنا عليه و هو متصبّح [2]،
فانتبه من صبحته و قعد، فسلّم عليه القرشيّ، و سأله فقال له: هذا معبد قد أتيتك
به، و أنا أحبّ/ أن تسمع منه. قال: هات، فغنّيته أصواتا. فقال بمدرى [3] معه في
رأسه، ثم قال: إنك يا معبد لمليح الغناء. قال:/ فاحفظني ذلك، فجثوت على ركبتيّ، ثم
غنّيته من صنعتي عشرين صوتا لم يسمع بمثلها قطّ، و هو مطرق واجم قد تغيّر لونه
حسدا و خجلا.
ما وقع بين
معبد و بين حكم الوادي
قال إسحاق: و
أخبرت عن حكم الواديّ قال: كنت أنا و جماعة من المغنّين نختلف إلى معبد نأخذ عنه و
نتعلّم منه، فغنّانا يوما صوتا من صنعته و أعجب به، و هو:
القصر فالنخل فالجمّاء بينهما
فاستحسنّاه و
عجبنا منه. و كنت في ذلك اليوم أوّل من أخذه عنه و استحسنه منّي فأعجبتني نفسي.
فلما انصرفت من عند معبد عملت فيه لحنا آخر و بكّرت على معبد مع أصحابي و أنا معجب
بلحني. فلما تغنّينا أصواتا قلت له: إنّي قد عملت بعدك في الشعر الذي غنّيتناه
لحنا، و اندفعت فغنّيته صوتي، فوجم معبد ساعة يتعجّب منّي ثم قال: قد كنت أمس أرجى
منّي لك اليوم، و أنت اليوم عندي أبعد من الفلاح. قال حكم: فأنسيت- يعلم اللّه-
صوتي ذلك منذ تلك الساعة فما ذكرته إلى وقتي هذا.
ما وقع بين
معبد و هو في طريقه إلى بعض أمراء الحجاز و بين العبد الأسود
قال إسحاق: و
قال معبد: بعث إليّ بعض أمراء الحجاز- و قد كان جمع له الحرمان- أن اشخص إلى مكة،
فشخصت. قال: فتقدّمت غلامي في بعض تلك الأيام، و اشتدّ عليّ الحرّ و العطش،
فانتهيت إلى خباء فيه أسود و إذا حباب [4] ماء قد برّدت، فملت إليه فقلت: يا هذا،
اسقني من هذا الماء. فقال لا. فقلت: فأذن لي في الكنّ [5] ساعة. قال لا. فأنخت ناقتي
و لجأت إلى ظلّها فاستترت به، و قلت: لو أحدثت لهذا الأمير شيئا من الغناء أقدم
به
[1]
كذا في الأصل. و قد ذكر ياقوت للمدينة تسعة و عشرين اسما لم يذكر من بينها هذا
الاسم. و أقرب الأسماء إليه «المحومة». فلعل ما هنا محرّف عنه، أو أنه هو الذي
أطلق هذا الاسم على المدينة؛ لأن الجوبة هي الموضع ينجاب في الحرّة، و المدينة بين
حرّتين تكتنفانها.
[3] قال ابن
الأثير: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال و تطلقه على غير الكلام و اللسان،
فتقول: قال بيده أي أخذ، و قال برجله أي مشى
و قالت له العينان سمعا و طاعة
أي أومأت؛ و
منه الحديث «قال بالماء على يده» أي قلب، و «قال بثوبه هكذا» أي رفعه، و كل ذلك
على المجاز و الاتّساع. فهو هنا من هذا القبيل. و المراد أنه حكّ رأسه بهذه
المدرى، و هي حديدة يحكّ بها الرأس.
[4] جمع حب
(بالضم) و هي الجرّة صغيرة كانت أو كبيرة.
[5] الكنّ:
ما وقاك من حرّ أو برد، أي ائذن لي في أن أستظلّ بكنك ساعة من جهد الحرّ و العطش.