و اختلف في وجوبها، فقال أصحابنا و المعتزلة
بذلك[1]، و خالفت الأشاعرة فيه[2]. و قد استدلّ
المصنّف بوجهين:
الأوّل: أنّه لمّا ثبت أنّ
أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض، و أنّ الأغراض عائدة إلى عبيده، و هي منحصرة فيما
فيه مصالحهم و دفع مفاسدهم و ذلك إمّا في معاشهم أو معادهم. ثمّ تلك المصالح و
المفاسد قسمان:
أحدهما: ما يستقلّ عقولهم
بدركه كوجود الصانع و صفاته و حكمته و حسن بعض الأشياء و قبح بعض. و هذا قد يفتقر
فيه إلى التنبيه لجواز الغفلة و استيلاء الشهوة و الغضب و سلطان الهوى، فينغمر
العقل في الملابس البدنيّة فلا يحصل المطلوب.
و ثانيهما: ما لا يستقلّ ككثير من
مصالح المعاش و الأغذية و الأدوية، و كالعبادات و كيفيّاتها. و هذا ممّا يفتقر
ضرورة إلى التنبيه عليه. و التنبيه في كلا القسمين لطف لهم، و كلّ لطف واجب.
الثاني: أنّه لمّا كان الإنسان
بحيث لا يستقلّ وحده بتحصيل مهمّات معاشه، بل يفتقر إلى مشارك و معاون في ذلك، كان
الاجتماع و الملاقاة و المعاشرة ضروريّة، فكانت مستلزمة لوقوع معاملة و معاوضة.
ثمّ إنّه لمّا كان سلطان الشهوة و الغضب
مستوليين على الأشخاص، و محبّة كلّ لنفسه بحيث يحبّ الغبن و يكره الانغبان، أمكن
وقوع الشرّ و الفساد بسبب ذلك في تلك
[1]إنّ أصحابنا الإماميّة لما أثبتوا وجوب
اللطف على اللّه تعالى، و أنّ أفعاله معلّلة بالأغراض، و أنّ الغرض لا يعود إليه
تعالى بل إلى العباد، قالوا بوجوب بعث الرّسل. و استدلالهم عليه يرجع إلى هذين
الأمرين. ينظر: أوائل المقالات للمفيد:
44، الذخيرة في علم الكلام: 323، الاقتصاد
للطوسيّ: 152- 153، نهج المسترشدين: 58، كشف المراد: 271.
و وافقنا في ذلك المعتزلة، فقال القاضي عبد
الجبّار: إنّه قد تقرّر في عقل كلّ عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس، و ثبت أيضا أنّ
ما يدعوا إلى الواجب و يصرف عن القبيح فإنّه واجب، و ما يصرف عن الواجب و يدعوا
إلى القبيح فهو قبيح لا محالة، و لم يكن في قوّة العقل ما يعرف به ذلك، و لا يتمّ
هذا المعنى إلّا بالرسل من عند اللّه تعالى. شرح الأصول الخمسة:
564، شرح العقائد النسفيّة: 165، مذاهب
الإسلاميّين 1: 48.
[2]إنّ الأشاعرة خالفت الإماميّة و
المعتزلة في وجوب البعثة على اللّه لأجل أنّ أفعاله تعالى عندهم غير معلّلة
بالعلل و الأغراض. و لذلك عبّروا في تعابيرهم بجواز إرسال الرسل. قال الآمديّ:
مذهب أهل الحقّ أنّ النبوّات ليست واجبة أن تكون و لا ممتنعة أن تكون، بل الكون و
أن لاكون بالنسبة إلى ذاتها و إلى مرجّحها سيّان. و قد صرّح الباقلانيّ بأنّه يجوز
للّه تعالى إرسال الرسل و بعث الأنبياء. غاية المرام في علم الكلام للآمديّ: 318،
الإنصاف للباقلانيّ: 92.