أصل[1]- إنّ اللّه
تعالى خلق الإنسان، و أعطاه العلم و القدرة و الإرادة و الإدراك و القوى المختلفة،
و جعل زمام الاختيار بيده، و كلّفه بتكاليف شاقّة، و خصّه بالألطاف الخفيّة و
الجليّة، لغرض عائد إليهم. و ليس ذلك إلّا نوع كمال لا يحصل إلّا بالكسب، إذ لو
أمكن بلا واسطة، لخلقهم عليه ابتداء. و لمّا كانت الدنيا هي دار التكليف فهي دار
الكسب، يعمّر الإنسان فيها مدّة يمكن تحصيل كماله فيها، ثمّ يحوّل إلى دار الجزاء،
و تسمّى دار الآخرة.
أقول: المعاد مفعل مشتقّ من العود، و صيغة
مفعل، تجيء للزمان و المكان، أي زمان العود أو مكانه. و المراد به هاهنا: الوجود
الثاني للأبدان و عود النفس إليها بعد مفارقتها.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ اللّه تعالى خلق
الإنسان في أحسن تقويم، كما حكاه في كتابه الكريم[2]، فعدّل مزاجه
بحسب ما يقتضيه نوعه للأفعال المطلوبة منه، فزاده- بعد تعديل أركان بدنه- إفاضة
النفس الناطقة و تعلّقها ببدنه، و جعل لها تصرّفا في ذلك البدن و به.
فوهبه قوى مختلفة تنقسم إلى مدركة و إلى محرّكة.
أمّا المدركة فهي إمّا للكلّيّات و هي القوّة
العقليّة المحصّلة للعلوم، و إمّا للجزئيّات.
فإمّا ظاهرة، و هي السمع و البصر و الشمّ و
الذوق و اللمس، و إمّا باطنة، و هي خمس أيضا: