اسم الکتاب : الأربعين في اصول الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 124
و انزواؤها عنها طوعا مع
القدرة عليها، و أصلها العلم و النور الذي يشرق في القلب حتى ينشرح به الصدر، و
يتضح به أنّ الآخرة خير و أبقى، و أن نسبة الدنيا إلى الآخرة أقلّ من نسبة خزفة
إلى جوهرة، و ثمرتها القناعة من الدنيا بقدر الضرورة، و هو قدر زاد الراكب، فالأصل
نور المعرفة، فيثمر حال الانزواء، و يظهر على الجوارح بالكفّ إلا عن قدر الضرورة
في زاد الطريق. و الضروريّ من زاد الطريق مسكن و ملبس و مطعم و أثات.
أما المطعم، فله طول و
عرض: أما طوله، فبالإضافة إلى الزمان، و أقصر درجاته الاقتصار على دفع الجوع في
الحال، فإذا دفعه غدوة لم يدخر شيئا لعشائه، و أوسطه أن يدّخر لشهر إلى أربعين
يوما فقط؛ و أدناه أن يدّخر لسنة؛ فإن جاوز ذلك خرج عن جميع أبواب الزهد، إلا أن
لا يكون له كسب و لا يأخذ من الأيدي، كداود الطائي، فإنه ملك عشرين دينارا،
فأمسكها و قنع بها عشرين سنة؛ فذلك لا يبطل مقام الزهد و درجته في الآخرة إلا عند
من يشرط التوكل في الزّهد. و أما عرضه فأقله نصف رطل، و أوسطه رطل، و أعلاه مدّ؛ و
الزيادة عليه تبطل رتبة الزهد. و أما الجنس، فأقله ما يقوت و لو النخالة، و أوسطه
خبز الشعير، و أعلاه خبز البرّ غير منخول، فإن نخل فهو تنعم لا زهد.
فأما الإدام فأقله الخل و
البقل و الملح، و أوسطه الأدهان، و أعلاه اللّحم؛ و ذلك في الأسبوع مرة أو مرتين،
فإذا دام لم يكن صاحبه زاهدا.
قالت عائشة- رضي اللّه
عنها-: «كان يأتي أربعون ليلة و ما يوقد في بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم
مصباح و لا نار»، و قيل: ما شبع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم منذ قدم المدينة
ثلاثة أيام من خبز البر.
و أما الملبس فأقله ما
يستر العورة و يدفع الحرّ و البرد، و أعلاه قميص و سراويل و منديل من الجنس الخشن،
و يكون بحيث لو غسل ثوبه لم يجد غيره؛ فإن كان صاحب القميصين لم يكن زاهدا. قال
أبو ذر: أخرجت عائشة- رضي اللّه عنها- كساء ملبدا و إزارا غليظا، فقالت: «قبض رسول
اللّه صلى اللّه عليه و سلم في هذين». و صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في
خميصة[1] لها علم، فلما سلم قال: «شغلني النظر
إلى هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم ..» الحديث. و كان شراك نعله قد أخلق فأبدل بسير
جديد، فلما سلم عن صلاته