هذه النصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول (صلّى اللّه عليه و سلم) لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه و بينهم. و أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند اللّه.
الصدع بالحق و ردود فعل المشركين
و لم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] فقام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و سلم) يعكر على خرافات الشرك و ترهاته، و يذكر حقائق الأصنام و ما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، و يبين بالبينات أن من عبدها و جعلها وسيلة بينه و بين اللّه فهو في ضلال مبين.
انفجرت مكة بمشاعر الغضب، و ماجت بالغرابة و الاستنكار، حين سمعت صوتا يجهر بتضليل المشركين و عباد الأصنام، كأنه صاعقة قصفت السحاب، فرعدت و برقت و زلزلت الجو الهادئ، و قامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، و يخشى أن تأتي على تقاليدها و موروثاتها.
قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى اللّه، و معنى الإيمان بالرسالة و باليوم الآخر هو الانقياد التام و التفويض المطلق، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم و أموالهم، فضلا عن غيرهم. و معنى ذلك انتفاء سيادتهم و كبريائهم على العرب، التي كانت بالصبغة الدينية، و امتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة اللّه و رسوله، و امتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على الأوساط السافلة، و عن السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء. عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم تأبى عن قبول هذا الوضع «المخزي» لا لكرامة و خير بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ [القيامة: 5].
عرفوا كل ذلك جيدا، و لكن ما ذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، أعلى مثل للقيم البشرية و لمكارم الأخلاق، لم يعرفوا له نظيرا و لا مثيلا خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء و الأقوام؟ ما ذا سيفعلون؟ تحيروا في ذلك، و حق لهم أن يتحيروا.
و بعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلا إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه، و رأوا لإلباس طلبهم لباس الجد و الحقيقة أن يقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلهتهم، و القول بعدم نفعها و قدرتها سبة قبيحة و إهانة شديدة لها، و فيه تسفيه و تضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين، وجدوا هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها.