و خرج خالد فى تعبيته التي خرج فيها من الحيرة، على مقدمته الأقرع بن حابس.
فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة، و لم يجدوا بدا من الإقدام، و معهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، و احتقبوا المنتوجات؛ لأنها لم تطق السير، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، و قد تحصن أهلها، و خندقوا عليها، فأشرفوا من حصنهم، و على الجنود التي قبلهم شيرزاد صاحب ساباط [3]، و كان أعقل أعجمى يومئذ و أسوده، فتصايح عرب الأنبار و قالوا:
صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة و جمل تربه عوذ. فقال شيرزاد، و قد سأل عن ما يقولون، فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم، و الله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، و أنشب القتال، و كان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به، و تقدم إلى رماته، فأوصاهم و قال: إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم و لا توخوا غيرها، فرموا رشقا واحدا، ففقئت ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون، و تصايح القوم: عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، و أتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق و الرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون و المشركون فى الخندق، و أرز القوم إلى حصنهم، و راسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد، فقبل منه خالد على أن يخليه و يلحقه بمأمنه فى جريدة خيل، ليس معهم من المتاع و المال شيء، فخرج شيرزاد، فلما قدم على بهمهن جاذويه و أخبره الخبر لامه، فقال له شيرزاد: إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول، و أصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، و قلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم و فى أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسألة أسلم، و أن قرة العين لهم، و أن العيون لا تقر منهم بشيء.
[1] الأنبار: مدينة بالقرب من بلخ. انظر: معجم البلدان (1/ 257، 258).
[2] انظر: الطبرى (3/ 373- 375)، الكامل لابن الأثير (2/ 269)، نهاية الأرب للنويرى (19/ 112، 113)، البداية و النهاية لابن كثير (6/ 349)، تاريخ ابن خلدون (2/ 81).