أن كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه
الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات ، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور
أو حين تسألون في القبور ، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب
والعقاب أو من قبوركم. وهذه القضايا أيضا مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة
العلة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله (بَلْدَةً مَيْتاً) [ق : ١١] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. ويحتمل
أن يقال : المراد به خمول الذكر كقوله (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الدهر : ١] قال أبو نخيلة السعدي :
وأحييت لي
ذكري وما كنت خاملا
ولكنّ بعض
الذكر أنبه من بعض
ولا يخفى أن
الآية بالنسبة إلى العامة ، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ
بَعَثَهُ) [البقرة : ٢٥٩] (فَقالَ لَهُمُ اللهُ
مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : ٢٤٢] (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٦] (وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) [الكهف : ١٩] (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) [الأنبياء : ٨٤] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها : اشتمالها على
وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه. ومنها
الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا الله ، فيبطل قول الدهري (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل
القطعي الدال عليه ، لأن الإعادة أهون من الإبداء. ومنها الدلالة على التكليف
والترغيب والترهيب ، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال : (فَأَحْياكُمْ) أي بعقب كونكم نطفا من غير تخلل حالة أخرى بينهما ، ثم
يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة ، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لا بد من
حياة ثانية للسؤال أو للحشر ، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب. فبين سبحانه
أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشرا سويا وأكمل عقله
وبصره بأنواع المضار والمنافع ، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور. ثم إنه
تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئا ولا يبقى منه في الدنيا
خبر ولا أثر ، ويبقى مدة مديدة في اللحد (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٠٠] ينادي فلا يجيب ، ويستنطق فلا يتكلم ، ثم لا يزوره
الأقربون بل ينساه الأهل والبنون.