بأنه لم يقسرهم ، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه
وإقداره ، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف ، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب
الأسباب. ومن هذا القبيل ما قيل : إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن
التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم ، وأن الله بريء منه ، فإن الانتهاء إلى
الله تعالى لما كان ضروريا فكيف يتبرأ من ذلك؟ «ويعمهون» في موضع الحال. والعمه كالعمى ، إلا أن العمى في البصر
وفي الرأي ، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه. وثالثها
: قوله «أولئك
الذي اشتروا الضلالة بالهدى» أي اختاروها عليه واستبدلوها به ، وهذه استعارة لأن
الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :
أخذت بالجمة
رأسا أزعرا
وبالثنايا
الواضحات الدردرا
وبالطويل
العمر عمرا جيدرا
كما اشترى
المسلم إذ تنصرا
وعن وهب قال
الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ،
وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية
الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد
الاهتداء. وفي المثل «ضل دريص نفقة» أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب
لمن يعيا بأمره. فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على
رأس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسنادا مجازيا
لملابسة التجارة بالمشترين. وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازا إذا دلت
الحال. ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازا أتبعه ما يشاكله ويواخيه
من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :
ولما رأيت
النسر عز ابن دأية
وعشش في
وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب
بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. «وما كانوا مهتدين» لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان :
سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ، لأن رأس مالهم كان هو
الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض ، فلا ربح
ولا رأس المال. وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين
مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين
، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من هاهنا أدبر النهار من هاهنا
نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية.